من الأمانة الأدبية أن نبدأ هذا المقال باعتراف، لا يخدش من قدر أحد ولا يعبث باختيارات أحد: إنني كنت، وما زلت في رأيي الشخصي أعتقد، أن الصوفية – في صورتها التقليدية – تحمل في طقوسها ومظاهرها الكثير مما لا يستسيغه العقل، وتتشرب بعناصر مستعارة من ثقافات ومذاهب متباينة، حتى ليصعب الفصل بين الأصل والوافد! وبالعامية (أحسها نزعة دراويش وضحك على الذقون!)، ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يمنعني من أن اجل الاحترام والتقدير الكبير لجلال الدين الرومي، لا بوصفه «صوفيًا»، بل بوصفه عبقريًا إنسانيًا، شاعرًا بحجم العالم، ومفكرًا تخطّى الزمان والمكان! جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».