لديفيد هيوم تعبير لافت يقول فيه: «نحن مسكونون بأحجياتنا الداخلية، التي تميل إلى نشر أنفسنا في هذا العالم»، وهو ما استوقفني أثناء كتابة هذا المقال؛ لأنه يعبّر عن جوهر الحاجة إلى إعادة النظر في تمثلاتنا الثقافية. لا بد من وقفة إشادة بالحراك الثقافي المتنامي والحقل الأدبي المتجدد الذي تشهده المملكة اليوم، والذي لم يعد مجرد طموح نظري أو ترف فكري، بل أصبح واقعًا محسوسًا، أعطى الفرصة الحقيقية للشباب والشابات لتفجير طاقاتهم الإبداعية، وإعادة تشكيل صورة مغايرة للدرس الأدبي الذي كان ولسنوات طويلة حبيس القيود المدرسية الصارمة، والمنهجيات الجامدة، والأطر التقليدية التي فرضتها الأندية الأدبية ذات النزعة المحافظة. وحين أقول فرصة، فإنني أعني بذلك فرصة متكاملة، لم تتح فقط على مستوى الشكل الفني، بل على مستوى المضامين أيضًا، سواء في التعبير الشعري، أو الاشتغال الفلسفي، أو التكوين الروائي، لقد وجد الجيل الجديد في هذه المساحات المتاحة متنفسًا للتعبير، ومجالا لإعادة مساءلة الذات والعالم، من خلال نصوص تجمع بين التأمل والتخييل، وتمنح للخيال الروائي شرعيته دون أن تتخلى عن عمق الفكرة أو صدق المعاناة الإنسانية. هذا المشهد المتجدد أتاح للرواية خاصة أن تنهض بوظيفة فلسفية غير مباشرة، حيث باتت تقارب أسئلة الوجود والإيمان والأخلاق، لا من منابر الوعظ أو مقاعد التنظير، بل من خلال شخصيات تواجه قلقها اليومي، وتحاول فهم العالم من حولها، بما فيه من غرابة وجمال وفوضى، لقد أصبحت الحكاية أداة للتفلسف، والخيال وسيلة لمقاربة الحقيقة، كما لو أن الرواية باتت الذراع الروحي للحقل الأدبي، تواجه به المعضلات الكبرى دون أن تتخلى عن دفء المشاعر أو تشويق السرد. وهنا، أمام هذا المشهد الثقافي الواعد، لا يسعنا إلا أن نثني عليه، ونؤكد أنه يمثل مشروعًا ثقافيًا يستحق الإشادة، فقد نقل الأدب من هامش الترف إلى مركز السؤال، وجعل من الفعل الثقافي ضربًا من ضروب المقاومة الناعمة تجاه الابتذال والسطحية، لكن رغم هذا الزخم، تظهر فجوة عميقة لا يمكن تجاهلها، فجوة تنبئ عن غياب مقلق لحقل معرفي مواز: الحقل العلمي الإنساني، لا بمعناه الأكاديمي البارد، بل باعتباره خطابًا فكريًا يعيد إنتاج المعرفة حول الإنسان والعالم والطبيعة والمجتمع بلغة ممنهجة تربط بين الظاهرة وتفسيرها. لقد نجح الأدب في خلق أفق تأملي خصب، لكنه لا يكفي وحده، نحتاج إلى استكمال المشهد برؤية علمية وفكرية قادرة على وضع أسئلة الرواية ضمن سياقات معرفية أوسع.. أين هو الخطاب العلمي المحلي الذي يتناول موضوعات مثل: الوعي، العقل، الإدراك، النفس، اللغة، المجتمع، التكنولوجيا، البيولوجيا، المستقبل؟، أين هي المساحات التي يدار فيها حوار عابر للتخصصات، بين الأدب والعلوم الطبيعية، بين الفلسفة وعلم الأعصاب، بين الرواية ونظرية المعرفة؟. الحقل العلمي في صورته الثقافية العامة ما زال غائبا أو متواريًا خلف جدران الجامعات، محصورًا في الأوراق البحثية والمؤتمرات المغلقة، دون أن يتحول إلى خطاب عام يغذي الوعي الجمعي أو يتقاطع مع الإنتاج الأدبي، وهذا الغياب يفرغ الكثير من النصوص الأدبية من إمكاناتها التأويلية الكاملة، لأن الفكر وحده لا يكتفي بالتعبير، بل يحتاج إلى تحليل وتفكيك وبناء، إذن نحن أمام مشهد ثقافي مشرق في نصفه، ومعتم في نصفه الآخر، النصف الأول تشكله الرواية والشعر والفن، أما النصف الآخر العلمي والفلسفي فما زال في طور الغياب. ولعل التحدي الحقيقي اليوم ليس في إنتاج مزيد من النصوص، بل في خلق فضاء معرفي متكامل، يربط بين الجمال والفكر، بين الأدب والعلم، بين الحكاية والتأويل العلمي، وبين التأمل وجرأة السؤال، أثناء قراءتي لمقالات، جون بروكمان، في كتاب «ما نؤمن به ولا نستطيع إثباته» أعاد لي تساؤلات، والحق كانت صرخة تذكير بواقع مقلق، هيمنة المثقف الأدبي في المشهد الثقافي العربي، واحتكاره لحق التعبير عن العقل الجمعي، بل ومصادرة أدوات التفكير، والنقد، والمراجعة باسم الأدب والفكر الإنساني، نعيش اليوم في بيئة معرفية يندر فيها أن ترى مثقفًا يتحدث عن فيزياء الجسيمات أو بيولوجيا التطور أو تعقيد الدماغ، إلا بوصفها ترفًا معرفيًا لا يدرج ضمن أولويات النهضة الثقافية أو الوعي الجمعي. تغيب عن مشهدنا الثقافي أسماء بحجم، فرانسيس كريك، جيمس واتسون، إدوارد ويلسون، ولين مارغوليس، كما لا يعنى أحد بإنجازات، ستيفن هوكينغ، إلا بكونه فيزيائيًا منحط الأخلاق، وبراين غرين اللانجابي اللعين، روجر بنروز الذي لا يعرف له ملة أو ذمة، كارلو روفيلي، أو إدوارد ويتن، وغيرهم في نظريات الأوتار، الأكوان المتعددة، أو البنى الكمومية للزمن.. هذه الأسماء تحدث الفارق اليوم، وتدفع حدود المعرفة البشرية إلى أقصاها، بينما ينهمك المشهد الثقافي المحلي في جدل دائري حول هل الشعر العامودي أرقى من الشعر الحر؟، أو في مهاترات حول هل الرواية العربية جنس أدبي أصيل أم مستورد من الغرب؟. لا يخفى عن الكثير أن القوى العظمى التي تعيد تشكيل العالم لا تبني نهضتها على التفريق بين المعري وامرئ القيس، ولا تأبه إن كان طه حسين قد جانب الصواب في الشعر الجاهلي أو لا، بل تبني حضارتها على المجاهر الإلكترونية، وتسليح الذكاء الاصطناعي، ونمذجة الخلايا الجذعية، وفهم الخريطة الجينية للإنسان، كل ذلك، بينما يكتفي مثقفنا المحلي بمراجعة منشورات دور النشر، ومناقشة مشروعات النقد البنيوي والتفكيكي، وإعادة تدوير إنتاج الآخر الغربي، دون المضي نحو تأسيس مشروع معرفي حقيقي في العلوم الصلبة، هذا الخلل البنيوي في الثقافة، لا يجب أن يعامل بلين ولا بطبطبة. اليوم لم يعد مقبولا أن نواصل تغليف الواقع الثقافي بمساحيق التجميل الأدبي، بينما تغيب الأحياء الجزيئية، والفيزياء النظرية، وعلوم الأعصاب عن الوعي العام، بل وعن المناهج الجامعية نفسها، لا يصح أن نحصر التفكر، وهو أرقى أفعال الإنسان، في ساحة الأدب وحده، وكأن التأمل الفلسفي لا ينشأ إلا من بيت شعر أو قافية! فكم من سؤال كوني، وكم من حيرة وجودية ولدت من مختبر البيولوجيا أو من معادلات الكم !. إن ما نحتاجه اليوم ليس تقويمًا للأدب ولا إنكارًا لقيمته، بل نحتاج اتزانًا حقيقيًا يعيد توزيع الثقل الثقافي بين الحقول، فمن القصور أن نرفع من شأن ألفية ابن مالك ونسدل الستار على علم الوراثة الجزيئية، أو نثني على لامية العرب بينما نجهل تفاعلات كرسبر أو نظريات الحقول الكمومية. يفترض أن يكون المثقف المحلي جسرًا، لا حارسًا لبوابة وهمية تسمى الثقافة، ويجب أن تتبنى الجهات الرسمية مبادرات معرفية حقيقية، تخلق بيئات تعلم متعددة التخصصات، وتفكك احتكار الأدب للفكر، وتخرج الفلسفة من نادي إعادة إنتاج مقولات، هايدغر، ونيتشه إلى فضاء الأسئلة الجديدة في الوعي، والذكاء الاصطناعي، والبيولوجيا التطورية. إننا، وبكل وضوح، بحاجة إلى ثورة في الوعي الثقافي المحلي، لا تبدأ من كتب الشعر، بل من قاعات البيولوجيا، ومراكز الفيزياء النظرية، ومختبرات علوم الدماغ، هذا العالم الذي يتسارع بقوة مخيفة لا ينتظر من يجادل إن كانت القصيدة الحرة فسادًا للذائقة، بل من يجيب عن أسئلة الجينوم، والسديم، وأصل المادة، ونهاية الزمن، وبقدر ما نحب الأدب والفلسفة والسوسيولوجيا، ندرك أن التوازن المعرفي ضرورة لا ترف، وأن احتكار الثقافة بوصفها أدبًا وفنًا فقط هو ضياع لأهم أدوات النهضة، وحرمان للعقل العربي من أدواته الأكثر حداثة وقدرة على الفهم الخلاق.