الوطنية التي ينبغي أن يتخلَّق بها كل مواطن هي عنوان كبير يُخطئ كثيراً من يظن أنَّ علامته والدلالة عليه هي فقط رفع صورة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله والعلم، والرقص على أنغام (أنت ما مثلك فهالدنيا بلد)، إنَّ مناسبة العيد الوطني هي بلاشك مناسبة جميلة ولكن الأجمل والأهم أن يدرك المواطن المعنى الحقيقي للوطنية والسلوك الذي يُثبت شعاراً كهذا، انطلاقاً من ذلك سأحاول هنا النحو منحىً مختلفاً في الحديث عن هذه القضية التي أراها بالفعل تستحق التأمل والتفكير. أحد تعريفات الوطنية الكثيرة ما ذُكر في الويكيبيديا من أنها: (مصطلح يُستخدم للدلالة على المواقف الإيجابية والمؤيدة للوطن من قبل الأفراد والجماعات ومن أمثلتها الفخر بالثقافة، الفخر بالإنجازات، الرغبة في الحفاظ على طابع وأساس الثقافة)، ضمن هذا التعريف ينبغي التوقف قليلاً عند الكلمة (الرغبة في الحفاظ على طابع وأساس الثقافة)، هذا المثال يُجسِّد كما أعتقد أهم معنىً من معاني الوطنية، لأنه يُعبر عن سلوك وليس فقط عن شعارات، وكما قال الشاعر: والدعاوى مالم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ من هنا فإنَّ الوطنية كما أراها هي سلوك وليست شعاراً فقط، هي سلوك حضاري قائم على احترام القانون والرغبة في إعلاء اسم الوطن في كل محفل تقدمي وعدم استغلال النفوذ والمنصب في الالتواء عليه وممارسة الفساد بأي مصداق من مصاديقه، إنَّ كل مواطن وانطلاقاً من حجمه يمارس الوطنية بحق حينما يلتزم بالنظام ويُصرّ على تطبيقه، وحينما لا يكون كذلك فإنَّه غير وطني حتى لو رقص ليل نهار على أنغام (أنت ما مثلك فهالدنيا بلد)، إنَّ المقاول الذي يُنشئ طريقاً، في يومه الأول غاية في الجمال، وفي يومه الثاني جبال وتلال لممارسة التطعيس هو شخص فاسد وليس وطنياً حتى ولو غنى هذه الأغنية، إنَّ أي صاحب منبر إعلامي أو صحفي أو ديني لا يُدين الإرهاب والتغرير بأبناء الوطن ويلتزم عوض ذلك الصمت هو شخص غير وطني ولو تغنى بهذه الأغنية، إنَّ العقاريين الذين سيطروا على جهات توسع المدن وضاعفوا الأسعار بحيث أصبح متر التراب يناهز قيمة أثمن أمتار السجاد على وجه الأرض وسلبوا من المواطنين أموالهم وأموال أولادهم وأحفاد أحفادهم هم غير وطنيين حتى لو غنوا ورقصوا على هذه الأغنية، إنَّ المدير الذي يرأس إحدى الشركات وجميع أقاربه وأحبابه وأحباب أحبابه وعيالهم وعيال جيرانهم جميعاً في شركته ويتقلدون أعلى المناصب بمساعيه هو شخص فاسد وليس وطنياً حتى لو خلع العقال وأخذ يرقص على أنغام أنت ما مثلك فهالدنيا بلد، ما قيمة أن يرقص شخص ليل نهار وهو يرفع العلم في حين جميع سلوكياته وأفعاله تثبت أنَّه أحد معاول الهدم لهذا البلد؟!! ما قيمة أن يرقص شخص على أنغام هذه الأغنية وعلى يديه تكسرَّت أحلام الناس؟!. أنت ما مثلك فهالدنيا بلد، لأنَّها بالفعل أمانة في أيدينا وتستحق منا جميعاً كمواطنين أن نحسن المحافظة عليها ونسعى في تطويرها وبنائها ونُسهم كلٌّ بحسبه في النهوض بها، ينبغي جداً علينا جميعاً أن نقف وقفة تأمل مع أنفسنا والمجتمع ونتساءل عمَّا إذا كنا بالفعل نملك هذه الوطنية أو أننا نُحسن الادعاء في حين تفضحنا سلوكياتنا، دع الخلق للخالق، كثيراً ما ترد كمبرر للصمت تجاه أي واقع متخلف والرضوخ إليه، لو لم يلتزم أي مواطن الصمت حينما يجد أمامه القانون وهو يُنتهك وصعَّد أمر هؤلاء الفاسدين للجهات المعنية لكنا بالفعل نسير بشكل أسرع في التنمية، لو تعامل المواطن مع مرافق البلد مثلما يتعامل مع ممتلكاته الشخصية لوجدنا الجمال والرقي فيها ولم نجد عوض ذلك مئات من العمال المساكين الذين يعملون في حرَّ القيظ الشديد وهم يجمعون العبوات الفارغة من الكورنيش والحديقة، الذي تناوب على قذفها ذلك المواطن وأسرته دون مراعاة لأحد. الوطنية في ملخصها سلوك وليس ادعاء، لا يُهم أن يعرف الإنسان تعريف الوطنية، المهم أن تكون سلوكياته سلوكيات صحيحة ونظامية، إنَّ الصدق هو أن يقول الإنسان الحق وليس أن يعرف أن تعريفه هو قول الحق فيما هو يكذب ليل نهار، المُثل هي سلوكيات وليست تعاريف جوفاء نُلقن بها أنفسنا وأولادنا في حين نطعنها ليل نهار بفعل نقيضها، ينبغي لنا أن نعلم أولادنا ومن حولنا هذه اللغة وهذا المنطق، ودونما ذلك ستبقى (أنت ما مثلك فهالدنيا بلد) مجرد شعار لا يعبر في حقيقته عن أي معنى.