رغم أن كلا من روسيا والصين استخدمتا الفيتو لإجهاض صدور قرار من مجلس الأمن حول الأزمة السورية، إلا أن الفيتو الروسي وحده حظي بالتركيز الخبري والتحليلي. ربما كان ذلك بسبب الإرث الإمبراطوري الطويل للقوة الروسية، سليلة الجبار السوفيتي والذي طالما شارك بفعالية في صياغة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي لم يكن يتردد في استخدام قوته لنقض هذا القرار لمجلس الأمن أو ذاك. وإذا أضفنا لهذا السبب أننا لم نعتد على صين فعالة في صياغة المشهد السياسي الكوني، فإنه يمكن فهم لماذا كان التركيز على الفيتو الروسي وحده. ورغم أننا لا نعلم ماذا سيكون موقف الصينيين تجاه الأزمة السورية لو غير الروس رأيهم، فإنه من العملي الآن التركيز على الموقف الروسي بوصفه بوابة الحماية الدولية لنظام الأسد، إن تغير تغيرت أمور كثيرة، هكذا هي القناعة السائدة. لذا، سأركز في مقالي هذا على الموقف الروسي. فهذا الفيتو الروسي كان مفاجئا ومحيرا. التوقعات قبل تصويت المجلس على القرار كانت إما طرح قرار قوي يفتح الباب لعقوبات، وربما ما هو أكثر، على النظام السوري ويجابه، أي هذا القرار، بفيتو روسي أو بصدور قرار معدل ضعيف يكتفي بشجب ممارسات النظام السوري الدموية بحق مواطنيه. المفاجأة أن الخيارين اجتمعا، قرار ضعيف جوبه بفيتو. فالقرار المطروح تعرض لتعديلات تعاملت «بكرم» مع المخاوف الروسية من تكرار السيناريو الليبي وصلت لدرجة النص صراحة على أن القرار المطروح لا يسمح ولن يؤدي إلى تدخل عسكري في الشأن السوري. و بعد كل هذه التجاوبات و التنازلات، فاجأت روسيا الكل بالفيتو. إنه قرار محير صدر عن رؤية يجهد الكثير الآن في معرفة كنهها. ترى لماذا يتخذ الروس هذا الموقف المحرج؟ أول الشروحات للموقف الروسي وأبسطها وأكثرها تداولا هو التعليل بالمصلحة. أي مصلحة الروس مع نظام الأسد. أصحاب هذا الرأي يطرحون نوعين من المصلحة واحد جيو-استراتيجي والثاني اقتصادي بحت. فالجيو-استراتيجي يتمثل في كون سوريا هي القلعة الوحيدة الباقية لروسيا في منطقة الشرق الأوسط البالغة الأهمية. أما الاقتصادي فيتمثل في كون سوريا الأسد هي من أكبر مستوردي السلاح الروسي فضلا عن العلاقات الوثيقة بين نخبة الأعمال السوريين والاقتصاد الروسي. ورغم وجاهة هذين السببين فإنهما لا يمكن أن يشرحا الموقف الروسي. لماذا؟ السبب أعلاه يصلح لشرح موقف روسي مستعد لحماية سوريا من هجوم غربي. يصلح للشرح لو كان الأزمة السورية ذات بعد دولي بحت، أي موقف بين الدولة السورية وقوى غربية، تقريبا مثل الموقف بين عراق صدام وأمريكا في تسعينات القرن الماضي. لكن الملف السوري الآن انطلق من عامل داخلي بحت وما العامل الدولي إلا انعكاس وصدى، أو لنقل حتى استغلال، للعامل الداخلي. ما هو حجم المصلحة الروسية في سوريا الذي يغري بحماية نظام قمعي من غضب شعبه المتفجر منذ ثلاثمائة يوم؟! وما هي تلك المصلحة التي تجعل دولة تسمح لنفسها أن تظهر بصورة حامية القمع والقتل والتعذيب الذي تتناقله المحطات التلفزيونية والمواقع؟! ليست هذه هي الطريقة لحماية المصلحة ولن تكون. والموقف الروسي في مجلس الأمن صدر بكلفة تفوق، في الحسبة العملية، كثيرا المصالح الروسية المذكورة أعلاه. لا ننسى، أن السوفييت تخلو عن نصف أوربا، أي أوربا الشرقية، و تركوها تتداعي في حضن الغرب دولة دولة دون ممانعة رغم أن شرق أوربا أهم للسوفييت بعشرات المرات من سوريا. كما لا ننسى أن روسيا، خليفة السوفييت، تخلت عن يوغسلافيا في تسعينات القرن الماضي و سمحت بذهاب جورجيا للغرب قبل بضع سنوات. إن للسوفيات، ولخلفائهم الروس من بعدهم تاريخا طويلا من التخلي عن الحلفاء. لذا، فإن رواية المصلحة لا يمكن لها أن تقدم قرأة معقولة للسلوك الروسي. أعتقد أن السلوك الروسي، وهو سلوك له ثمن بالغ يدركه السياسيون الروس، مدفوع بالخوف. الخوف على روسيا نفسها، خوف وجودي وليس فقط جيو-استراتيجية أو اقتصادية. الروس خائفون من نجاح الثورة السورية. نجاح السورية ضد نظام البعث الشمولي البوليسي، وهو من هو في إحكام قبضة حديدية على شعبه، سيكون ذا مفاعيل خطيرة على أسوار روسيا أولا وربما على جسدها الهائل الحجم لاحقا. فحدائق روسيا الجنوبية تضم أخوة روسيا في الاتحاد السوفيتي وزملاءها الحاليين في رابطة الدول المستقلة (كازاختستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، أذربيجان). إنها دول ذات غالبية إسلامية وقريبة من العرب جغرافيا وروحيا وثقافيا. بعض هذه الدول لا يختلف في شموليته عن سوريا الأسد. مثلا، رئيس كازاخستان منذ استقلالها سنة 1991 نزاراييف هو في أحسن الأحوال وأخفها نسخة من بن علي، الرئيس الهارب للدولة التي فجرت ظاهرة الربيع العربي. نجاح الثورة السورية سينقل ظاهرة الربيع العربي نحو أفق جديدة، نحو التخوم الإسلامية. الموقف الروسي الذي ظهر في مجلس الأمن يقوم على مبدأ «عدم التدخل في شؤون الآخرين». أغلب الظن أن محورة السياسية الخارجية على هذا المبدأ تستبق ما قد يحدث في رابطة الدول المستقلة من ثورات، بالنظر إلى الطبيعة اللاديموقراطية لغالبية نظم الحكم فيها. الروس، بعدما حدث في ليبيا، خائفون من تدخل غربي قادم في رابطة الدول المستقلة إن حدث فيها ربيع مشابه لربيع العرب إن هم لم يمنعوا نجاح الثورة السورية من جهة ويثبتون مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى من جهة أخرى. لذا ووفق هذه الرؤية، فإن زيارة وزير خارجية روسيا ورئيس استخباراتها لدمشق الثلاثاء الماضي لم تكن بهدف التوسط بين النظام السوري ومعارضيه لكسر حالة العنف وبدء حوار بين السوريين، كما تذهب غالب القراءات، بل كانت من أجل الشد على يد الأسد مستنهضة إياه على إتمام الحل الأمني بأكمل ما يكون. ينقل موقع الدنيا، الموالي للنظام السوري، قول رئيس الاستخبارات الروسي لمضيفه السوري الثلاثاء الماضي «متى ستعزمني على الغداء في حمص»؟ الروس مستعجلون على إجهاض الثورة السورية، بل ويحبذون إجهاضا أمنيا بشعا لهذه الثورة يكفل ردع شعوب آسيا الوسطى عن تفجير ربيع قد تمتد مفاعيله إلى داخل الجسد الروسي المتناثر. الربيع العربي بذاته يشكل تهديدا للوجود الروسي.