الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تَخَلَّوا عن مهنة الطب واستغرقوا باهتماماتهم التلقائية
نشر في الرياض يوم 17 - 08 - 2014

إذا بقيت الوقائع والظواهر متناثرة فإن دلالاتها العامة تغيب عن الأذهان فالدلالة لا تتضح إلا بكشف العلاقات والروابط التي تجمع الوقائع والحالات في مضمون موحَّد شامل يختلف عن دلالاتها كآحاد مبعثرة...
من شواهد ذلك أن كاتبًا شهيرًا كان قد تخلى عن مهنة الطب وانغمس في الكتابة والصحافة والإبداع والتأليف لكنه حين سئل عن ظاهرة الأدباء الأطباء نفى أن تكون ظاهرة وإنما في اعتقاده لا يتجاوز الأدباء الأطباء أربعة أفراد في كل العالم وهذا يؤكد أن ظاهرة التحول من مجالات التخصص إلى مجالات الاهتمام التلقائي هي ظاهرة غائبة عن الأذهان حتى لمن هم في نفس المجال فالإنسان بطبيعته لا يفطن لما ليس ظاهرًا من الروابط إلا إذا أثير اهتمامه التلقائي ففي هذه الحالة فقط ينتبه ويبدأ في تتبع الحالات حتى تنكشف له الخيوط التي تربط الوقائع والحالات المتناثرة وبذلك تنجلي له الظاهرة وتصبح حقيقة مضيئة...
ظاهرة التحول من مجالات التخصص إلى مجالات الاهتمام التلقائي هي ظاهرة غائبة عن الأذهان حتى لمن هم في نفس المجال فالإنسان بطبيعته لا يفطن لما ليس ظاهرًا من الروابط إلا إذا أثير اهتمامه التلقائي ففي هذه الحالة فقط ينتبه ويبدأ في تتبع الحالات حتى تنكشف له الخيوط التي تربط الوقائع والحالات المتناثرة وبذلك تنجلي له الظاهرة وتصبح حقيقة مضيئة
إن جموعًا من ذوي المهن المختلفة يبقون غارقين في همومهم الشخصية فلا يتجاوزون ما اضطروا إلى التخصص فيه مهنيًّا فيبقى دارسُ الطب طبيبًا ويظل دارسُ الهندسة مهندسًا فإذا تقاعد انطفأ لأنه حَصَرَ نفسه في المهنة التي اتجه غالبًا إليها من دون رغبة وإنما اضطرَّ إليها اضطرارًا كمصدر للعيش وهذا هو شأنُ أكثر الناس إن التخصص في صورته السائدة عند الأكثرية يؤدي إلى تقزيم الإنسان وإغفال أو إقفال قابلياته المفتوحة العظيمة لكن قلة من الناس يفيقون من هذا السبات أو ينفكون من هذا الأسر فينفتحون على الآفاق ويستطيعون الإنجاز أو الإبداع في أي مجال يستغرق اهتماماتهم التلقائية فلا يحُدُّهم تخصُّص ولا تقيدهم مواضعات فيصيرون روادًا على المستويات المحلية أو العالمية ويصبحون نجومًا مضيئة وسط الانطفاء العام الغامر...
إن أكثر الناس يولدون بقابليات مفتوحة واعدة غير أنها في الغالب يساء تشكيلها وعمومًا فإن الحياة تقوم على القيادة والانقياد ليس فقط على المستوى الإنساني بل أيضا على مستوى الحياة كلها كما هي حالة خلايا النحل والنمل وأسراب الطيور وكل الأحياء ذات الوجود الاجتماعي إنه قانون عام قد أحكمه الخالق سبحانه فالكثرة تنقاد والقلة تقود إنها القلة المبدعة في مجالات الفكر والفعل ومن هؤلاء القلة المبدع الروسي انطون تشيخوف وربما أن كل القراء أو أكثرهم قد سمعوا أو قرأوا عنه لكن الغالب أن بعضهم لا يعرفون أنه طبيب أو يعلمون أنه طبيب لكنهم يمرون على هذه المعلومة دون محاولة ربطها بحالات أخرى مماثلة فتبقى الشواهد متناثرة وتغيب الروابط الجامعة فتفقد دلالتها العامة العميقة...
كان تشيخوف ذا حس إنساني رفيع ملتهب إنه مبدع استثنائي كان يتألم لأوجاع الناس وتعاساتهم ويتأثر أشد التأثر لبؤسهم وشقائهم وكان يطمح إلى أن تتغير الأوضاع البشرية وأن يتقلَّص البؤس الإنساني لذلك يقول في قصة (العروس) على لسان بطلة القصة: "المهم أن نقلب الحياة رأسًا على عقب أما الباقي فليس بالمهم" لذلك هَجَرَ الطب وانشغل بالإبداع وصْفًا لواقع بائس كئيب وطموحًا لمستقبل مأمول سعيد...
تحتفل روسيا كل عام بمولد تشيخوف المبدع وليس تشيخوف الطبيب لأنه من مفاخرها الكبرى وكما قال الرئيس قورباتشوف: "إنه مفخرة بارزة في تاريخنا الفكري والمسرحي" كانت تشغله اهتمامات إنسانية عامة كبرى لذلك لم يستطع أن يسجن نفسه في عمل مهني رتيب لأنه متوقد العقل ومتأجج الوجدان فراح ينتج بغزارة مذهلة وصار من أبز المبدعين العالميين ويعود ذلك إلى أنه لم تكن اهتماماته اهتمامات مهنية محصورة ومغلقة وإنما كانت اهتمامات إنسانية مفتوحة وعميقة وشاملة أما دراسته للطب فهي مجرد حدث عابر لا شأن لها في كل ذلك فلو دَرَسَ الهندسة كما هي حال دستو يفسكي أو لم يدخل أية جامعة كما هي حالة تولستوي فسوف يبقى هو تشيخوف المبدع ذاته إن التخصصات في كل المستويات هي لتخريج المهنيين وليست لتخريج المبدعين فالإبداع مستوى مختلف نوعيًّا...
إن في حياة تشيخوف أكثر من دلالة مهمة عميقة فقد دَرَسَ الطب وأبدع في مجالات متنوعة مغايرة كما أنه عاش طفولة مغموسة بالعمل والفقر والكدح والتعب وهذا يؤكد الخطأ السائد الذي يَحْرم الأطفال من الاحتكاك المبكر بمشاكل الحياة فيبقون ساذجين ويتأخر نضجهم وربما لا يأتي أبدًا فليس تشيخوف فريدًا في طفولته الشاقة وإنما نجدها ظاهرة بارزة بين المبدعين في كل المجالات وسوف أتناول ذلك تفصيلاً بتقديم شواهد كافية من مجالات إبداعية متنوعة لكن هذا له حديث آخر...
أما الدلالة الثالثة في حياة تشيخوف فهي أنه عاش عليلاً ومات مبكرًا ولكنه في هذا العمر القصير المفعم بالمرض والمعاناة أبدع روائع باهرة مازالت الدنيا تتحدث عنها في كل اللغات وهذا يؤكد أن مقولة (العقل السليم في الجسم السليم) هي مقولة خاطئة فالإنسان بما ينضاف إليه فليس المهم صحة البدن بل المهم محتوى العقل وأنواع الاهتمامات وبرمجة الطفولة وما تتمخض عنه من قيم وتصورات واتجاهات...
يقول عبد الفتاح قلعة جي في كتابه (المسرح الحديث): "أما الباحثون فلا يزالون يبحثون عن سر إبداع تشيخوف" فلا أحد يتحدث أو يكتب عن تشيخوف الطبيب ولكن العالم كله في مختلف اللغات يتحدث ويحلل ويبحث وينبهر ويكتب عن تشيخوف الأديب المبدع...
وصَفَهُ المبدع الأشهر تولستوي بأنه: "فنَّانٌ لامثيل له" أما المبدع الألماني توماس مان فقد قال عن روايته (حكاية مملة): "إنها شيءٌ غير عادي.. شيءٌ ساحر.. لن تجد له مثيلاً في الأدب كله.. إنها تثير الدهشة.. تهزُّك هزًّا" وكتب عنه الأديب الروسي ألكسندر كوبرين: "فسوف تمر الأعوام والقرون وسوف يمحو الزمن ذكرى آلاف الآلاف من الأحياء لكن الأجيال القادمة التي كان تشيخوف يحلم بسعادتها سوف تردد اسمه بعرفان" من البديهي أنني هنا لا أقصد بهذه الأسطر الخاطفة أن أُعرِّف بمن يعرفه كلُّ العالم لكنني أستشهد به كنموذج لعبقرية الاهتمام التلقائي فلقد دَرَسَ الطب لكنه أبدع في مجالات مختلفة كليًّا...
وننتقل لنموذج آخر مختلف فلقد تخرَّج يحيى الفخراني في كلية الطب بجامعة عين شمس ولكن جَذَبَه التمثيل واستهواه المسرح فنجح فيه وَوَجَدَ نفسه يميل بقوة إلى الانصراف إليه والاستغراق فيه ومع تتابع النجاح هَجَرَ الطب كليًّا وانغمس في المجال الذي استغرق اهتمامه وَوَجَدَ فيه ذاته فانشغاله سنوات في دراسة الطب كان استجابةً لمعايير المجتمع ومتطلبات العيش فلم يدرس الطب عن شغف وعشق ولا عن اهتمام تلقائي ذاتي وإنما دَرَسَه مضطرًّا فتخلى عنه حين اتيحت له الفرصة فالإنسان ينفُر من القَسْر ولا تستجيب قابلياته إلا لما يهواه وينفعل به...
أما النموذج الثالث فهو الطبيب الأديب المفكر المناضل فرانز فانون فلقد كان يعمل طبيبا في الجزائر في سنوات اشتعال حرب الاستقلال فآلمته مظالم الاستعمار فاستقال من وظيفته في خطاب احتجاجي مهيب مازال الدارسون يتناقلونه ويستشهدون به ولم يكتف برفض العمل مع المستعمر الذي يحمل جنسيته وإنما تخلى عن الجنسية وانضم لثوار الجزائر وصار رئيسًا لجريدة (المجاهد) وألَّف العديد من الكتب وكان ذا نشاط واسع كما كان ذا تأثير عميق في حياته وبعد مماته فقد صار شخصية عالمية فاهتم به الدارسون ومازالت الأقلام تسيل للإشادة به ودراسة آرائه وأفكاره ومواقفه ليس بوصفه طبيبًا بل لأن كتاباته قد صارت في العالم نشيدًا للتحرر كما باتت مرجعًا للدارسين في الفلسفة الاجتماعية والسياسية فحين صدر كتابه (معذبو الأرض) كتب عنه جان بول سارتر: "أيها الأوروبيون إقرأوا هذا الكتاب.. اُدخلوا فيه.." كان فانون يحمل الجنسية الفرنسية لكنه تخلى عنها وانضم للثورة الجزائرية فقال عنه الزعيم الجزائري أحمد بن بيلا: "لم يكن فانون رفيقًا في المعركة فحسب بل كان مرشدًا وموجِّهًا لأنه ترك لنا في انتاجه الفكري والسياسي ما هو ضمانة للثورة الجزائرية" لقد غيَّر مسار حياته تغييرًا جذريا فانتقل من المستوى المهني الآمن الرتيب إلى المستوى الإنساني بكل أبعاده ومخاطره ومتطلباته فاستغرق الهمُّ الإنساني كل طاقاته وكان يحس بأنه صاحب رسالة إنسانية فما أن عَرَفَ أنه مصابٌ بالسرطان حتى اندفع لإنجاز كتابه (معذبو الأرض) فهذا الكتاب هو بمثابة الخلاصة أو الوصية الأخيرة وحين كان عاجزًا عن الكتابة كان يملي إملاءً فقد كانت الأفكار تغلي في داخله وكان يريد تدوين رؤيته قبل أن تفيض روحه!! ياله من رجل صادق وشجاع...
كان فانون من أبرز المفكرين أثناء الحرب الباردة الذين حرَّضوا على استعادة الهوية الوطنية لكل الأمم ولجميع الشعوب من أجل خلق روح اعتزاز وطنية تدفع الناس إلى التضحية والفداء من أجل استقلال الأوطان لكنه لم يكن غافلاً عن أن الاستقلال ليس كافيًا وإنما يجب أن تكون الشعوب مؤهلة للتلاحم في مجالات التنمية والبناء بنفس درجة تلاحمها أثناء الكفاح المسلح فلقد كان يدرك أنه لا يمكن تحقيق النمو والازدهار إلا بالأخذ بمقوماته الطارئة التي تفتقر إليها ثقافات الشعوب في العالم الثالث فالعودة إلى الذات لا تعني رفض العوامل المستجدة للبناء والتقدم لكن توقعاته قد حصلتْ فساد الرفض المطلق لعوامل التقدم فانكفأ أكثر الشعوب على ثقافات محلية بائسة أبقتْ الكثير من شعوب العالم الثالث نهبًا للجهل والفقر والمرض والاستبداد والتخلف...
من كتبه (العام الخامس للثورة الجزائرية) و(لأجل الثورة الإفريقية) و(جلد أسود) و( معذَّبو الأرض) لقد اعتبره الكثير من المثقفين رائدًا يُحتذى به فاهتمَّ به كبار المفكرين المناوئين للغرب من أمثال ادوارد سعيد وهومي بابا ونغوجي واثيونغو وغيرهم لكنهم ركَّزوا على نقده للغرب وأغْفلوا خوفه من النكوص والتقوقع داخل قلاع الثقافات المتخلفة المغلقة...
أما الذين تناولوا فكره بالدراسة والتقييم دراسة شاملة فهم كثيرون ومنهم: لويس غوردون في كتابه (فانون وأزمة الإنسان الأوروبي) وآتو سيكي آتو في كتابه (جدلية فانون بشأن التجربة) ومن أحدث الكتب التي صدرتْ عنه كتاب (فانون: المخيلة بعد الكولونيالية) للأكاديمي البريطاني نايجل غبسون إن فردًا بهذه الأهمية الكبرى لا يمكن أن تكون هذه السطور سوى إشارة للتذكير به بوصفه من أبرز شواهد عبقرية الاهتمام التلقائي...
وننتقل إلى نموذج آخر مختلف إن العالم كلَّه يعرف الطبيبة جروهارلم برندلاند رئيسة حزب العمال في النرويج.. ففي عام 1986 فاز حزبها في الانتخابات فصارت رئيسة للحكومة النرويجية والمعروف أن النرويج من أشد البلدان استقرارًا وازدهارًا إن هذه السياسية دَرَسَتْ الطب لكنها وجدتْ أن اهتمامها التلقائي القوي ليس اهتمامًا مهنيًّا وإنما كانت تسعى إلى الاصلاح الشامل في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فانخرطت بقوة في هذه المجالات العامة فصارت من أكثر السياسيين في النرويج شهرة وتأثيرًا لذلك جرى ترشيحها لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة لكن فاز غيرها في تلك المنافسة الدولية غير أنه يكفي أنها كانت مرشَّحة بقوة لأن تَشْغَل هذا المنصب الذي يمثل ذروة المناصب الدولية...
وننتقل لمثال آخر مختلف إن بعض ذوي النبوغ يتخصصون في مجال مهني معيَّن ولكنهم حين يتخلون عنه لا تقتصر إبداعاتهم على مجال واحد مختلف وإنما تأتي في مجالات متنوعة استجابة لاهتماماتهم التلقائية العميقة وعلى سبيل المثال فإن الإيطالي جيلو دورفيلز.. دَرَسَ الطب لكنه تخلى عن هذا المجال وأبدع في عدد من المجالات المتباعدة فقد اشتهر فيلسوفًا وناقدًا ورسَّامًا ومثَّالاً وأديبًا إنه يؤمن بأن الإنسان لايبدع إلا في مجال يحبه ويندفع إليه ويتحمَّس له إنه يرى أن قابليات ملايين الناس معطلة بسبب الافتقار إلى الحماس وغياب الحب التلقائي للمعرفة أما هو فإن عشْقَه للفلسفة الجمالية مكَّنه من البروز في هذا المجال فعمل استاذًا للفلسفة الجمالية في جامعة ميلانو وجامعة نزيستا وجامعة كالياري واتسع نشاطه وتنوعت اهتماماته فأسس مع آخرين (الحركة الفنية الواقعية) ولم تقتصر اهتماماته وإبداعاته على ذلك بل إنه أيضا فنَّان تشكيلي ويشارك بإبداعاته في المعارض الدولية وقد حصل على أوسمة وميداليات ليس في مجال الطب الذي دَرَسَه وتخصَّص فيه مهنيًّا ولكن في مجالات إبداعية متنوعة بعيدة كل البُعْد عن مهنة الطب وحين عينته ثلاث جامعات إيطالية لم تعينه أستاذًا للطب وإنما عيَّنَتْه أُستاذًا للفلسفة الجمالية هكذا هو الإنسان لا يبدع وتتجلى مواهبه وتتفتح طاقاته إلا في المجال الذي يهواه ويعشقه ويستغرق فيه...
وننتقل لنموذج مختلف فعضو الكونغرس الأمريكي رون بول.. هو رجلُ سياسة بالاهتمام التلقائي والممارسة العملية أما دراسيًّا فهو طبيب لكنه تخلى عن مهنة الطب وانغمس في السياسة وقد كان من أبرز المرشحين عن الحزب الجمهوري لمنافسة أوباما في ولايته الثانية ومن العبارات التي ترددتْ عنه أثناء المعركة قوله: "إن قمة التعامل بمسؤولية العمل السياسي تأتي حينما يفوز مرشَّحٌ ما بمعركة انتخابات" وقد علق عماد الدين أديب على ذلك بقوله: "ومعنى هذه العبارة البليغة هي أنك إذا أردت أن تحوِّل شخصًا ما من موقف النقد الدائم أو المعارضة الكلامية المستمرة إلى موقف العمل المسؤول الإيجابي فإن أفضل شيء هو أن يتولى مسؤوليةً جاءت عن طريق الانتخاب الحر.. المسؤولية التي تأتي عن طريق الانتخابات الحرة تفرض على صاحبها سداد فاتوة الولاء لمن وضعوا ثقتهم فيه وانتخبوه بناء على برنامج ومبادئ وَعَدَهم بتنفيذها" أما جهاد الخازن فكتب عنه يقول: "رون بول مرشَّحٌ جدلي جدا وكنت فضَّلته على جميع المتنافسين الجمهوريين على الرئاسة... إن رون بول أفضل الموجود في ساحة المنافسة" إن رون بول قد هَجَرَ الطب قولاً وعملاً فله كتاب بعنوان (تعريف الحرية) أي أنه منشغلٌ فكرًا وكتابة وممارسة بالعمل السياسي الذي يتفق مع اهتماماته التلقائية وليس في الطب الذي دَرَسَه...
ولم يكن رون بول أول طبيب ينافس في انتخابات الرئاسة الأمريكية ففي عام 1967 استقال بنجامين سبوك من وظيفته كطبيب وتفرغ لتنظيم المعارضة ضد حرب فيتنام ثم خاض الانتخابات الرئاسية الأمريكية مرشَّحًا عن حزب الشعب فاهتمامه التلقائي في الشأن السياسي والاجتماعي تغلَّب على اهتمامه المهني...
وهنا يكون مناسبًا أن نتذكر الطبيب اللورد ديفد أوين.. الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة البريطانية فهو لم يحصل على لقب (لورد) عن إنجازات في الطب الذي يحمل شهادته وإنما ناله لنشاطه وإنجازاته في المجال السياسي...
أما السياسي الأكثر شهرة فهو الطبيب التشيلي سلفادور اللندي الذي هَجَرَ الطب مبكرًا واستغرقه الكفاح الاجتماعي والعمل السياسي وفاز عام 1970 في الانتخابات الرئاسية وظل رئيسًا للبلاد حتى أطاح به بينوشيه في انقلاب عسكري دموي وتم قتله أثناء مقاومته للانقلاب...
وحين يكون الحديث عن الأطباء الذين أبدعوا في مجال مختلف لا بد أن يحضر إلى الأذهان اسم الروائي الشهير آرثر كونان دويل.. مبتكر الشخصية الشهيرة (شيرلوك هولمز).
لقد مات دويل منذ أكثر من نصف قرن ولكن العالم مازال يتحدث عنه بل وسيظل يحتفل بذكرى مولده وتقام المتاحف لعرض آثاره وسيبقى مُلهمًا للدارسين فمن آخر الكتب التي صدرتْ عنه كتاب بعنوان (العقل المدبِّر: كيف نفكر مثل شرلوك هولمز) لعالمة النفس ماريا كونيكوفا وحين مُنح لقب فارس (سير) لم يكن ذلك لإنجازات في مجال الطب بل هو اعترافٌ وتأكيدٌ لأهمية إبداعاته الأدبية فهو مفخرةٌ بريطانية لقد تمَّ تحويل رواياته إلى أفلام يتابعها الملايين في كل العالم وتتكوَّن جمعيات في الأقطار الأوروبية من عُشَّاق إبداعات دويل ففي فرنسا على سبيل المثال توجد جمعية (الهولمزيون) مهتمة بمتاعبة أخبار هذا المبدع الأسطوري وتتواصل هذه الجمعية مع جمعيات أخرى في البلدان الأخرى...
يقول الدكتور فراس عالم: "كان من الممكن أن يذكر التاريخ السير آرثر كونان دويل بصفات كثيرة من شخصيته المتعددة الإنجازات كان من الممكن أن يوصف كطبيب أو كسياسي مدافع عن حقوق الشعوب أو ككاتب مبرز في مجال التاريخ والخيال العلمي أو حتى كباحث متعمق في مجال الروحانيات" هكذا هو دويل متعدد الاهتمامات متنوع المواهب إنه مبدع يملك رؤى رائعة عن الإنسان والمجتمع والحياة ويعبِّر عن رؤاه بكفاية مذهلة...
كان المبدع آرثر كونان دويل ملهمًا للكثير من المبدعين وقد كانت المبدعة الشهيرة أجاثا كريستي من أبرز المتأثرين به وكما هو معروف فإنها روائية اسطورية أيضا ورواياتها تطبع بالملايين وقراؤها في كل العالم...
إن هذه السطور ليست للتعريف بمبدع يعرفه كل العالم لكنه شاهد من شواهد (عبقرية الاهتمام التلقائي) فما أريد التأكيد عليه هو أنه لا تحصيل للمعرفة التي تخالط الذات وتكون جاهزة تلقائيًّا وتجري في الإنسان جريان الدم إلا باهتمام قوي مستغرق وكذلك لا يمكن اكتساب المهارة المهنية إلا باهتمام تلقائي وممارسة ممتعة فالحصول على شهادة في أي مجال لا يدل على امتلاك مهارة الأداء العملي فالأداء العملي يختلف نوعيًّا عن المعرفة النظرية فهما حقلان مختلفان فلا بد أن يدرك الجميع بأن التأهيل الحقيقي للعمل الناجح والإنجاز المتقَن لا يتوفر بشهادات جامعية أو ما هو أعلى منها وإنما بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق الذي يدفع إلى الانهماك في المجال انهماكا مستمتعًا وليس بالإكراه أو الاضطرار أما الإبداع فهو مستوى مغاير تمامًا فمن الأساسي أن ندرك الفرق بين المعلومات النظرية والمهارات العملية وأن نتأكد من أن الإبداع لا سبيل إليه إلا بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق والقابليات المتشبِّعة فهو فيضانٌ تلقائيٌّ من قابليات متشبِّعة وزاخرة...
وإذا كان المبدع البرتغالي جوزيه ساراماغو قد نال جائزة نوبل وهو لا يحمل أية شهادة وإنما صاغته مكابدته للظروف الصعبة فقد أبحر منفردًا للتعلُّم بمواجهة أصعب الظروف فإن مواطنه الطبيب الأديب المبدع ميغيل تورغا كان مرشَّحًا أيضا لنوبل ويرى كثيرون بأنه يستحقها بجدارة فهو روائي وناقد وشاعر وكانت له مواقف مشرِّفة ضد الدكتاتور (سالازار) وهو يعلن بأن انتاجه الإبداعي كان نتاج الألم فقد كتب يقول: "كان الآخرون ينطلقون من المعرفة أما أنا فانطلقت من الألم ولم يُفتح أي باب أمامي قبل أن أقوم بفتحه أوَّلاً لقد ناضلت ضد الفقر وناضلت ضد الجهل وناضلت ضد نفسي كانت طفولتي مشحونة بالعذاب والركلات من قبل العالم بأسره أما شبابي فقد اختنق في نهاية السباق الماراثوني للثقافة فنضوجي طَبَعَه تعلُّقي الشديد بوطني". هكذا هو الاحتكاك الشديد المبكر بمشكلات الحياة هو الذي يصنع المبدعين أما إبعاد الأطفال والمراهقين عن معترك الحياة فهو يبقيهم ساذجين ويفوِّت عليهم فرصة النضج الذي يجعلهم يندفعون للعلم ويجيدون العمل ويهيئهم للتعامل الناضج مع مختلف الظروف والأوضاع إن الموضوع واسع ومتنوع وشواهده كثيرة ومتنوعة لكن مساحة المقال لا تتسع للمزيد...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.