وأعني بذلك التكوين في التعبير بما ليس من الضرورة الفنية في شيء، وإنما هو صنعة للتباهي بالمقدرة الابداعية للتعبير بشكل لا يتسنى لكل شاعر أن يجاري المبدع في نسيجه الابداعي، ولا يتوقف الهدف عند ذلك فربما يحرض عليه ردود الفعل لدى المتلقي وبخاصة ما يردد غناء في الملاعب و المناسبات وقد يكون لتوكيد المعاناة، وربما جاء لأغراض البديع في البلاغة أو التمكن من المفردات المتناغمة شكلا المختلفة معنى، وقد يأتي للألغاز كما في حساب الجمل و الدرسعي و نحوهما وأخيرا مجاراة لما في شعر الفصحى من نماذج للنصوص ذات الحروف المهملة من النقط أو المعجمة بالنقط أو الرقطاء بتناوب مفردات القصيدة بين مهمل ومعجم، ومن ذلك ما بنيت عليه بعض مقامات الحريري وعده بعضهم اعجازا وعده آخرون عسفاً يحبس الشاعر عن البناء الفطري للقصيدة حينما يكون همه عسف الكلمات لهدفه دون نظر لتآليف المفردات واتساقها، فهيمنت الصنعة على الابداع مهما كان لذلك من وقع جميل وصنعة متقنة وفنية. وقد مثل شيئاً من ذلك الزهيريات رغم ما تفرزه اللهجة من بعض المفردات عن مجراها، ولكن الذين يحبون هذا اللون من الشعر يدفعهم السياق للتسامح لادراكهم المعنى الذي يذهب اليه الشاعر. ومن النماذج المقبولة بل المفضلة مهما كان تكرارا وشحنا للنص بما ورد في صدر البيت ما جاء للتوكيد أو الابانة عن معاناة، وذلك يلهب المرددين عند غنائه، وتنفذ منه دلالة تفرز نسيج الشاعر الإبداعي كما جاء في أبيات اختلف رواة الأدب الشفهي في نسبتها وهي: يا نسيم الهبايب خبّري وين خلِّي خبّري وين خلي يا نسيم الهبايب خبّري وين راح اللي هروجه تسلِّي خبري وين راح اللي هروجه عجايب يوم شفت الركايب قمت ارحِّب و اهلي قمت ارحب واهلي يوم شفت الركايب والشاعر الأصيل لا يذهب إلى هذا النسيج عبثا وإنما لديه ما يبرر مذهبه، من سيطرة على الوزن والقافية رغم اختلاف التركيبة، ومن أسرار تعبيرية في التكرار ورمز التحكم في الأبيات. ويمكن ان يحول الصدر إلى بيت كامل: يا نسيم الهبايب خبري وين خلي يوم شفت الركايب قمت ارحب واهلي أو أن نقول: خبري وين خلي يا نسيم الهبايب قمت ارحب واهلي يوم شفت الركايب على أن الأبيات عادت إلى سياق القصائد المعروف بعد الثلاثة ابيات المشار اليها مقدمة لما حدث على أرض الواقع من رحيل المحبوب، وقد يحدث التكرار ذاته لتأكيد الامنيات أو تجسيد المعاناة: شد مضنون عيني شد ماهو هوىً لي آه لاعاد يومٍ فيه فرقى الحبايب سيد كل الحبايب مرة جا محلي مرة جا محلي سيد كل الحبايب مقدم الراس شايب من فراق السجل من فراق السجل مقدم الراس شايب جعل وبل السحايب فوق داره تهل فوق داره تهل جعل وبل السحايب وعلى أية حال هذا لون من ابداعات الشعر الشعبي له محبوه وله دور في التعبير عن المعاناة، وندرته في الشعر دليل على صعوبة ابداعه أو استهجانه. وللشاعر محمد العبدالله القاضي أبيات من هذا اللون مع اختلاف في التركيبة حيث جعل التكرار لازمة للابيات: يا هلا بالغالي يوم الله جابه يا هلا بالغالي ليتني له والي والاّ له قرابة ليتني له والي كان احب الغالي وارتوي من نابه كان احب الغالي ماني عنه سالي لو هو راسي شاب ماني عنه سالي حبنا للغالي ما أبي يُدْرَى به حبنا للغالي وأعتقد أن هذه الأبيات السامرية من شعر الغناء ونفل شعر القاضي إن صحت نسبتها إليه ، ومثل هذا الشعر المغنّى يضيف إليه المغنون ويبدلون فيه حسب ما تقتضيه المناسبة. ولمزيد من الاستمتاع بهذا اللون من السامري يمكن الرجوع لكتاب الباحث القدير محمد عبدالله الحمدان "ديوان السامري والهجيني"فهو كتاب يعيد إلى حياة لم يبق منها إلا القليل. ومن ابداع الشاعر عبدالله بن ربيعة في هذا المجال قصيدة تؤكد ما كتبه مؤلف كتاب "الازهار النادية من أشعار البادية" عن ابن ربيعة:"وهو شاعر فحل متين الشعر بعيد عن اللهو و البذاءة..فلا يزال شعره محفوظا في بادية نجد لمتانة شعره وجودة معانيه". هذه القصيدة فيها اعتداد بالتحكم في المفردات وتطويعها للشاعر، وتمييز عن سواها لأنها مرسلة لرجل مهم، فأراد الشاعر أن يميزه بالخطاب المشتمل على حكم وعمق في المعنى وعناية بنسيج المفردات ذات الشكل والمعنى المختلف ومن ثم عكس آخر قافية لأول كلمة تليها في البيت التالي: نفس عليها بيْدق الغي شاها غنّى ورا المظهور منها ووشاها وبقيت أجاوب ساجعات على الدوح مستارقٍ جفني عن النوم شاها فشاها الأولى: ملك، والثانية من الوشاية، والأخيرة من الامتناع عنه. والبيدق في الشطرنج جندي، وقد تملك بيدق الغي ناصية الشاعر فهام وراء المظهور وهو منظر مافي هودج النساء الذي تحملة الابل. وعاد الشاعر يغرد مع ساجعات الطيور وقد سلب منه النوم. ثم نراه يبدأ البيت الثاني بآخر كلمة في المقطع الأول مقلوبة "شاه- هاش": هاش الكرى عن موق عيني بلابيل وبضامري ربّي هواها بلابيل مالي بدمع كِنْ هدره بلابيل والروح عن جسمي بقلعة مداها وبلابيل: الأولى بلبال وهو القلق، والثانية بمعنى الهم والمشاكل. أما الأخيرة فهي انسكاب شلالات الدموع الغزيرة. هادم ركن صبري ولالي ملكها الروح طينة والمتركي ملكها طفلا تحسّنَ والمحاسن ملكها ياما عليه احييت مظلم دجاها المتركي هو الحبيب الذي جعل الشاعر يحيي الليل بالسهر الذي يمحو الدجى إلى قوله: هامل نظيري فوق خدي قراحِ هذا وانا ماجيت سن القراح ان كان علم الميت يوم ان قراحي أو قرِّب النجم الشمالي لياها قراح: الأولى صفاء ونقاء والثانية سن نمو الرجل والأخيرة كلمتان قرا وحي. هايل واشوف الهول قربه ولامه حين انترس بشراع زومه ولامه الله عسى من شاف مثلي ولامه يبلاه بلوى من تولى وباها لامه: الأولى وصله وليامه، والثانية ملاءمة والأخيرة من اللوم والعتاب والانتقاد. هابوا وانا جيت الحمى ساج ما ادري وذاك الحمى من ناعس الطرف مدري ذا شٍ كتب في لوح من قبل ما ادري آمنت ما قدر على النفس جاها ما ادري: الأولى من الدراية والعلم والمعرفة. والثانية من الدرء والمنع. والأخيرة عن صغر السن إلى قوله: هانت علي اسباب دنياي ما انشد تعذيب رعبوب به امسيت منشد يا زين ما تنشد عن الروح وين شد في نازح البيدا من البعد تاها انشد: الاولى اسأل، والثانية مشدود وقلق ومشغول به وشاعر ينشد ويغني لوعة وهياماً والأخيرة من الرحيل. هام الغرام ولا عليهن ملاحي لولا هوى العشاق ماني ملاحي واليوم يا ستر العذارى الملاح يا ميمر بريدة وحامي فياها ملاحي: الاولى من الملام، والثانية من الملاحاة والتخاصم، والأخيرة الجميلات. وميمر أي أمير وابن عرفج هو أمير مدينة بريدة معاصر للشاعر وهو شاعر ووجهت له هذه القصيدة في شكل متميز وقشيب، وكان رد ابن عرفج لا يجاري فيه ابن ربيعة من حيث الجناس ومقلوب القافية رحم الله الشاعرين. الحمدان كمال