ثقافة اليوم - فواز السيحاني نبش القبور بعناية فائقة، إخراج جثث الموتى من قبل أقاربهم الأحياء، وضع ما تبقى من عظامهم في أقمشة من حرير بعد غلقها جيداً ثم الرقص بها في الشوارع والممرات والأماكن العامة حتى آخر الليل، يلي ذلك إقامة أكبر وليمة لهم قبل إعادتهم لظلام مقابرهم؛ حيث يكون السكان في حالة تأهب مادي وجسدي لإعداد هذه الوليمة قبل موعدها بشهورٍ طوال. أعيان القبيلة يأمرون شبابهم إلى الذهاب للمدن المجاورة التي تبعد مئات الكيلو مترات لإحضار أطيب الفواكه والأطعمة بعد إعطائهم مبالغ ضخمة قامت العائلات بتوفيرها عن طريق العمل المتواصل تحضيراً لهذا اليوم الذي يلتقي الأحياء بالأموات الذي يقوم به سكان»مدغشقر» كل ثلاث سنوات دون تراخٍ أو كسل؛ لأنهم بحاجة ماسة لتأمين غذاء السنوات القادمة من خلال حَصد ما زُرع من بذور الأرز بفضل مباركة الموتى للحرث والمزارع وحمايتهم للتربة، إذ تأتي تلك المباركة كنتيجة لفرح الموتى بما قدموه الأحياء في الاحتفال الماضي من ولائم ورقص وموائد وحُلي ونساء متأهبات للرقص.. أما حين لا يتم حصد الأرز جيداً فإن ذلك يعني أن الموتى غاضبون جداً وسيقومون بتخريب ما يحصده الأحياء في الثلاث سنوات القادمة مما يجعل السُكان يشعرون بالكثير من الخوف والتهديد لغذائهم واحتمالية عدم خلو أجسامهم من الأمراض والعاهات الدائمة لهم ولأفراد عائلاتهم. تعتبر هذه العادة التي يقوم بها سكان مدغشقر من العادات الغرائبية جداً التي تحمل معنىً فلسفياً يندرج تحت ثقافة الموت وطريقة فهمهم لما وراء ماديات الأشياء، فنصف السكان تقريباً كما تذكر إحدى الكتب يمارسون هذا الاحتفال لأنهم يؤمنون بما لا يدع مجالاً للشك أن أرواح الموتى تعيش معهم ولا تتركهم لو للحظة واحدة؛ فَهُم يقومون بكل هذا الاحتفال وإعداد أفخم وأغلى الولائم كي لا يضروهم أو كي لا تجلب لهم هذه الأرواح شراً أبدياً ودائماً مع العالم الآخر، فقبيل الاحتفال المليء بالمشاغبات الروحية يقوم كبار السن تحضيراً لهذه المناسبة بجلب أكثر من فرقة موسيقية وأكثرها شعبية واختيار أمهر الراقصات في المدن كلها بعد التأكد من أنهن يملكن قُدرةً على مزاولته بأكبِر مدة ممكنة فكلما زاد وقت رقصهن كلما شعرت أرواح الموتى بسكينة وارتياح وإنتشاء وسعادة. حين تنتهي هذه الطقوس ويغمى على الراقصين وهم يحملون العظام من التعب يقوم المشاركين بإعادة رفات الموتى في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي إلى الضريح نفسه بعد تأثيثه بسجاد فخم يتساعد الأقارب مالياً في اقتنائه وكل من يشارك مادياً تحل عليه البركة ثم يقومون بتغليفها - أي تلك الرفات - في حرير ثمين ووضع كمية كبيرة من التبغ بجانب عظامهم ودفنها في الضريح نفسه حتى يتمكن الميت من التدخين في ضريحه بعد الحفل ويتسلى بالتبغ وحيداً! هذه العادة الخارقة لما هو متوقع يمارسها الكثير من سكان مدغشقر الذين يبلغ عددهم 7ملايين نسمه، كما أنهم يتزوجون ليس من أجل الإنجاب أو تكوين أسرة كما تذكر الدراسات الأنثروبولوجية وإنما فقط من أجل أن تقوم زوجاتهم بعد أن يموتوا بإخراج أجسادهم من تحت الأرض فيتمكنوا من المشاركة في هذا اليوم الذي يرقص فيه في الموتى بعظامهم مع الأحياء وأجسادهم فيكتمل مشهد الحياة الأخير تحقيقاً للمقولة التي يرددها سكان مدغشقر: الموتى هم الأحياء!.