يرجّح أن "الحاج عبدالله فيلبي" قد ترك أكبر مدوّنة وصفية عن شبه الجزيرة العربية، وخصّ الصحراء بمعظمها، لكنه توغّل في التاريخين القديم والحديث، والجغرافيا الطبيعية والبشرية، والأنساب القبلية والدينية، ويكاد يكون قد طاف في معظم أرجاء شبه الجزيرة، ومكث فيها عقودا عدة، ومجمل رحلاته الغزيرة تتواطأ مع الأحوال الإمبراطورية قبل أفولها عن المسرح العالمي. وبمقدار ما كانت تلك الرحلات بمجلّداتها الكبيرة عملية استكشاف مفصّل للبنيات القبلية والطبيعية، فقد كانت تقريرا ذا أهداف سياسية يهدف إلى حصر المعرفة في إطار معرفة تخدم الإمبراطورية. فقد حدث أن رغب "فيلبي" في أن يكون أول أوربي يرتاد الربع الخالي، فكان أن طلب الموافقة الرسمية، فسمح له بذلك، وبدأ الاستعداد للرحلة، ومعها قدمت له شروط تجنب المملكة أية مسؤولية عنه، ومنها "سقوط أي حقّ لاسرتي في المطالبة بأي تعويض عند وفاتي هناك. كما لا يحق للحكومة البريطانية اعتبار تلك الأراضي التي سأقوم بمسحها أراضي بريطانية بحكم جنسيتي" فقبل فيلبي الشرط الأول، ولتجنّب أي لبس من الإدارة الاستعمارية التي تستولي على الأراضي المكتشفة من طرف مواطنيها، فقد طلب "أن يكون القائد الرسمي للرحلة أحد رجال نجد". ولكن سرعان ما تلقّى تحذيرا بوجود قلاقل على حدود عُمان، فأصبحت المنطقة غير آمنة، وينبغي عليه تأجيل رحلته، فأصيب بالإحباط، وبذلك سبقه إلى اختراق الربع الخالي حاكم مسقط "برترام توماس". وتحقّق مضمون تلك المخاوف، إذ انطلق "توماس" من الطرف الجنوبي الشرقي للجزيرة، ونزل بظفار متّجها إلى الربع الخالي، وراح يتوغّل في أعماق الصحراء، فكان "لتلك الواقعة انعكاسات سياسية خطيرة خاصة وأنها قد فتحت مسارا لطائرات السلاح الملكي البريطاني في العراق مع تلك التي تربض في عدن، كما فتحت المجال لدخول الربع الخالي من الجنوب". يراد من هذا بيان أن الامبراطوريات تنسب إليها هوية الأرض التي يصفها رحّالة من مواطنيها، فلا تعترف بهويات غير التي تريدها هي، وكلّ أرض لم تطأها قدم استعمارية هي أرض مجهولة الهوية وقابلة للاستعمار بمجرد أن يمرّ بها رحّالة من أتباعها. اعتاد "فيلبي" أن يسمّي رحلاته في شبه جزيرة العرب ب"حملات" فهو يرتحل بكتيبة من الحرس والادلّاء والمساعدين والخدم والسائقين، ويتوغّل في مناطق نائية، فيُقابل بالاهتمام حيثما حلّ، وتُقدّم له الذبائح، ويبني معسكره إلى جوار القرى أو المدن، فيصبح موضع اهتمام الجميع. وقد رسم لنفسه صورة الغازي– المكتشف الذى يستعين بالقوة لتحقيق أغراضه، ويجهر بسلطته ضد المخالفين، ولا يتردّد في اللجوء الى العقاب. وحينما يؤدّي ظهور حملته في مناطق نائية إلى خلاف بين القبائل يهدّئ الأمور برويّة بوصفه وسيطا غايته جمع المتخاصمين، ولا يأتي على ذكر أن حضوره المسلّح قد تسبّب بذلك. على الرغم من أنه لا يلبث أن يتصرّف بوصفه عالما غامضا يهتم بالحجارة المهملة، والطيور، والنجوم، والطرق النسيمية، والكهوف، مما يثير سخرية ضمنية من طرف البدو الذين تعايشوا مع ذلك العالم الى درجة أنه لا يثير اهتمامهم، ناهيك ذهولهم. على أن التعجّب من تصرّفاته الغريبة التى لا يستحق أن يبذل لها المرء كل هذا الجهد، تصطدم بالهيبة المسلحة للزائر الغريب وهو يعيد تعريف الأشياء كما يحلو له، فلا قيمة لها قبل أن تندرج في مدوناته، ويكثر من التبجّح في أنه أول من خطا في هذه الفيافي، وصاحب أول عين أوربية وقعت على هذه الجبال، ويعرض شعوبا وقبائل منذهلة به تحار عجبا من السيارة، والمصابيح، والقوارير التى يحتفظ بالحشرات فيها، وجهاز الراديو المصاحب له الذي "يتمسّك به كما يتمسّك ببؤبؤ عينيه"، فضلا عن الغليون الذي أدمنه، وذلك يثير عجب البدو، بل استنكارهم. وربما تصل حيرتهم مداها الأقصى حينما ينكفئ على نفسه وحيدا وهو يسجّل كل ما رأى وما سمع في يومياته، مسمّيا كشوفاته بأسماء سيدات انجليزيات، فلكى يمضى لتحقيق أهدافه بين جماعات بدائية لابد من هيبة شخصية مدعمة بقوة مسلحة. ومن التمحّل الانتقاص من جهود "فيلبي" الكشفية الكبيرة، والمناطق الشاسعة التي مخرها، والخرائط التي رسمها، والنقوش التي نقلها، والآثار التي وصفها، ولكن عجرفة شخصية لاحت في بعض من مواقفه، وانتقاصا أخلّ بالشرط الإنساني، واضطراب في مزاجه أثار حفيظة العاملين معه، وهو ما أقرّ به في نهاية رحلاته، ففيما كان متّجها من نجران إلى حضرموت في رحلة خطرة انزلق بها عن مسار رحلة كبيرة قام بها لتثبيت الحدود، شغل باختيار جماعة من الأدلاء العارفين بالطرق الصحراوية والجبلية، قد ضمت حملته ثمانية رجال كُلّفوا بحمايته الشخصية وتأمين سلامته، فضلا عن اثنى عشر رجلا آخرين. بعد انطلاقه بأيام بدأت جماعات بدوية تتودّد اليه ليضمّها الى حملته في اكتشاف تلك المناطق النائية، وتكشف طبيعة علاقته ببعض الرجال المرافقين له مجمل نظرته الى أهل شبه الجزيرة خلال مدة وجوده فيها، فلطالما وضع نفسه في موضع المتبوع ووضعهم في منزله التابع، فأسفاره كشفت عن نرجسية في تقويم أخلاق مرافقيه وسلوكهم وصفاتهم، وكل ما لا يتطابق مع معاييره غير المعلنة تلحق به كثيرا مواصفات السوء. والمثال المناسب لذلك هو البدوي "عبدالله بن مدعار". فقد كان يقوم بمقابلة الأدلاء والمرافقين ليتأكّد من قدرتهم على توجيه قافلته في أرض مجهولة بالنسبة له، وعلى هذا ظهر "ابن مدعار" الذي سرعان ما اختفى بعد الاتفاق، وقد جرى تنبيهه بضرورة الالتحاق بالحملة، لكنه لم يأبه بذلك "فجاء اليوم التالي، ليختفى مرة أخرى بعد أن أعطانا وعدا غامضا بأنه سوف يعود في الوقت المناسب عند بدء رحلتنا في الغد. وجاء الظهر قبل أن يصل مع ستة رجال آخرين من قبيلته التى كان من الواضح أنهم يشمّون رائحة الحصول على وظيفة مربحة...وكان بن مدعار رجلا في حوالي الستين من العمر، ذا لحية طويلة تماما وكثّة وملامح قوية تنبض بالحيوية والنشاط. وكان لا يعيب مظهره سوى عينيه المغمضتين بدقة، حتى ليبدو من الناحية العملية أنه أعمى وذلك لإصابته ببعض أمراض العيون..كان حديثه فظّا ومتحدّيا، وكان لديه روح طفل أفسدها فقط حب المال واكتنازه وبخل الصحراء الذى يتعذّر تفاديه". رسم "فيلبي" صورة سلبية للبدوي ممثلا بابن مدعار الذي أظهره رجلا بدائيا شرها للمال ومن أولى سجاياه البخل، فهو لم يركب سيارة في حياته أبدا، ويزدرد الطعام بشراهة ثم يتقيؤه، والمتمارض الذي تنصرف عيناه إلى الدراهم أكثر ما تنصرف إلى خدمة رحّالة أجنبي. ابن مدعار نموذج تكراري ظهر كثيرا في أسفار "فيلبي" ولكي يعطى المستكشف الغربي لنفسه تميزا استثنائيا في المال والسلطة ينبغي ذم المحليّين الذين ينفضح ضيق أفقهم وجهلهم وشراهتهم، وبذلك يرتسم نوعان من الرجال: مستكشف استعماري حائز على المعرفة والمال، وبدوي جاهل محتال لا يفكر إلا ببطنه. وهذه العلاقة الشائنة هي التى يقترحها الخطاب الاستعماري بين التابع والمتبوع. المتبوع حائز على شروط رفيعة أولها المعرفة ثم المغامرة ثم السلطة ثم الثروة، والتابع الذي يفتقر إلى كل ذلك.