في صغرنا كنا نتمنى أن نرى لبنان ، كيف يكون ؟ بناته شقر ، بعيون خضر أو زرق . صورة من لبنان بأشجاره وأثماره ، بجباله الشامخة ، كنا نتحين الفرص لنسأل ، نبتهج لمجرد الخبر القادم والحكايات الجميلة ، تلك الوشوشات ، التي تنتقل من فم لفم . وتلك المجلات الملونة منه .. مجلات لبنان وصور الفتيات السافرات الجميلات ، والفساتين الهفهافة التي لم نكن نراها إلا في الصور. كبرنا مع حب لبنان ، الصيفيات للأغنياء هناك، عرفنا منه بحمدون وعاليه ، وعرفنا أكثر عن لبنان .. ولياليه ، واكتشفنا أن للبنان مطربين جميلين ، وديع الصافي وصوته الجبلي : (الله يرضى عليك يا ابني ).. وصوت فيروز يأخذنا لعوالم الجميلة لحكاية وقصة عبر أغنية .. لبنان أول لقاء لي بعالم غير الوطن والعراق والكويت . عرفته ، لبنان حيث البنات ممكن أن يسرن مسرعات ، وممكن أن يلبسن الأحذية الرياضية ، ممكن أن يكلمن زميلهن دون أن يشك بهن أحد .. ويجلسن في المقاهي.. كنا في رحلة تدريب للإخراج الصحفي ، مررنا عبر الصحف اللبنانية وكانت وقتها في أوج نشاطها .. كما المدن صيدا وصور وطرابلس وطبعا بيروت. لم تكن الفتنة رفعت رأسها بقوة بعد ، تستيقظ قليلا ثم تعود للسكون .... رغم أن الحكم كان كما أرادته فرنسا : رئيس جمهورية مسيحي ماروني ، رئيس وزراء مسلم سني ، ورئيس البرلمان مسلم شيعي .. لكن الطائفية لم تكن بعد تمكنت كثيرا ، .. ولكنها استيقظت بعد ذلك بعنف لا حد له .. ما أن عدنا وأقبل الصيف عام 1967م ..حتى كانت مصيبة الحرب ، والفجيعة الكبرى ، وذهب جنوب لبنان كما ذهبت القدس وسيناء والجولان .. كان فريق من الجيش اللبناني قد أصبح له رئيسا يعمل مع إسرائيل ويحارب بجانبها ، وتشققت لبنان . بقية السيناريو معروفة ، حتى تحرير الجنوب .. ورحيل جيش العملاء معه ثم العودة بعد مغفرة الوطن لهم .. خلال تلك السنوات من احتلال الجنوب ، كانت إسرائيل تفتعل كل مطلع صيف مشكلة كي تعطل موسمه ، ومن ثم يفقد الكثير من دخله ، كما نفقد كمواطنين عرب أعصابنا وراحة بالنا ، حتى كانت قمة ذلك اجتياحهم لبنان والسيطرة على بيروت بالكامل .. عام 1982م ..حيث تم تشتيت المقاومة الفلسطينية .. وكان تحرير الجنوب عام 2000م ، استطاع لبنان أن يعيد بعضا من اخضراره ، رغم استمرار الطيران الإسرائيلي في ضرب لبنان في بداية موسمه الصيفي . . آخر ذلك عام 2006 م وهو مازال طازجا في الذاكرة ، حيث بدأ في 12 يوليه، بعد أن قامت المقاومة اللبنانية بقتل وأسر جنود إسرائيلين .. دخلت إسرائيل في هجوم عنيف على لبنان ، فاحترق موسمه وجف أرزه .. ومازالت مناظر ضرب بلدة قانا حاضرة عبر الذاكرة .. وأشلاء الصغار تتناثر .. المختصر أن إسرائيل كانت تقتل موسم لبنان الصيفي ، كما كانت الحرب الطائفية قد حرقت لبنان كثيرا .. ولكن أهله عرفوا أن مصلحة الوطن أسمى من الطائفة .. المشكلة الآن أن الحرب الطائفية لها جمر يتوقد وهناك من يدير المراوح ليستشري ، ويعود ليحرق لبنان من جديد .. ويحرق موسمه ويدمره ، بقي أن ينتصر صوت لبنان الأخضر على صوت لبنان الجاف .. كي لا يحترق من جديد .. فيما تتسابق الدول العربية وغير العربية لتحل محل لبنان ، لبنان الذي كان أغلب أهل الخليج يتجهون له صيفا ، ها هو يحرم منها .. قد لا يكون مهماً الموسم أكثر من لبنان الوطن ، لبنان الذي تعلمنا منه الكثير ، لبنان الأخضر ولبنان الحب ولبنان الفكر. اللهم ارزق أهل لبنان الحكمة ليتجاوزوا المحنة.. كي يتغلب لبنان الأخضر على لبنان الجاف.