أشرت في ختام مقال الأسبوع الماضي إلى أن "حرية التعبير الواسعة إبان فجر الإسلام وضحاه، كانت تمد بسبب إلى القرآن الكريم ذاته، والذي أرسى أسساً متينة لها، لعل من أبرزها احترام آراء الخصوم، والإتيان بها في سياق الجدل مع أهلها كاملة غير منقوصة، إذ لم يستثن منها حتى تلك التي تعرضت للذات الإلهية، أو لذات النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم"، ووعدت بأن أواصل الحديث عن هذا المحور (احترام القرآن لآراء الخصوم) في هذا الجزء من المقال. وهكذا، لم يستنكف الذكر الحكيم أن يأتي، في مشاهد الجدل مع اليهود، بما قالوه في حق الذات الإلهية، كقولهم:" يد الله مغلولة"، وكقولهم:"إن الله فقير ونحن أغنياء". وكاستهزائهم بها، بقولهم لموسى عليه السلام:" إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون". وكادعائهم بنوة عزير لله تعالى، كما حكى القرآن عنهم بقوله تعالى:" وقالت اليهود عزير ابن الله". كما لم يستنكف من جهة أخرى أن يأتي، في سياق الجدل مع النصارى، بمقترفاتهم في حق الذات الإلهية أيضا، من جنس سؤالهم عيسى عليه السلام:" هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، وكادعائهم بنوة عيسى لله كما قال تعالى عنهم: "وقالت النصارى المسيح ابن الله". ومع شناعة تلك الأقوال، فقد اكتفى القرآن الكريم بالرد عليها بقوله تعالى:" ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ". من عظمت عليه ذنوب الناس ومعاصيهم، فليتذكر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة:» إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم»،أي أشدهم هلاكا.. وفي ذات المجال، نقرأ ما أثبته القرآن من تهكم كفار قريش بالرسول الكريم وبما أنزل عليه، كقولهم" إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ"، وكقولهم عن القرآن بأنه "أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"، وكقولهم عن الرسول:"مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا. أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا". ومع كل هذه المقولات المغرقة في التجديف، لم يزد القرآن على أن قال عنهم:" انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا". بل إنهم عندما زادوا في تهكمهم بالقول:"لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا"، لم يزد على أن قال عنهم:" لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا". وإذا كانوا، كما حكى القرآن عنهم:"إن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ. وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ (محمد عليه السلام)"، فإن الذكر الحكيم لم يزد على أن قال عنهم:" وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ". وإضافة إلى ذلك، نجد الله عز وجل يأمر نبيه أن يعتزل، فحسب، مجالس أولئك القوم إن هم خاضوا في آيات الله، عوضاً عن أن يأمره بمحاربتهم، أو بإيذائهم، أو بالتأليب عليهم، فقال تعالى:" وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" إلخ. يقول الطبري في تفسير هذه الآية:"يقول تعالى لنبيه: وإذا رأيت المشركين الذين يخوضون (يستهزئون) في آياتنا التي أنزلناها إليك، ووحينا الذي أوحيناه إليك، وسبهم من أنزلها ومن تكلم بها، وتكذيبهم بها، فأعرض عنهم، أي: فصد عنهم بوجهك، وقم عنهم، ولا تجلس معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، أي: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله". ولما كان الدهريون (الملاحدة) ينكرون الآخرة بالجملة، بقولهم، كما جاء في القرآن:" ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"، وبقولهم " إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ"، فقد اكتفى الذكر الحكيم تجاه تلك الأقوال الإلحادية برد غاية في التسامح، بقوله تعالى:"قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ". وتأمل قوله تعالى:" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ"، فهو من جنس قوله تعالى:" يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها"، ومن جنس قوله جل ذكره:" ولا تزر وازرة وزر أخرى"، فكلها دالة لمن دقت ملاحظته، على أن كل إنسان مسؤول عما قدمت يداه، مما هو محسوب على أفعاله اللازمة التي لا تتعدى على حريات الآخرين. ولكم وددت أن يُهوِّن بعض المحتسبين على أنفسهم عندما يحتسبون على ما يعدونها أخطاء أو ذنوباً يرتكبها الناس بصفتهم الفردية، ذلك أنه بالإضافة إلى أن كل إنسان سيحمل وزره لوحده، وكل نفس ستجادل عن نفسها وحدها، فإن تلكم الذنوب والمعاصي التي تسيل لها عبراتهم، ما هي إلا أمور نسبية، فقد يراها غيرهم محسوبة على مجال المباح. ومن عظمت عليه ذنوب الناس ومعاصيهم، فليتذكر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة:" إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم"،أي أشدهم هلاكا. أما المنافقون في المدينة فلقد كانوا أشد عتوا ونفوراً من إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب وكفار قريش، إذ كان من أبرز مقولاتهم الكفرية ما تفوه به كبيرهم (عبدالله بن أبي بن سلول ) في غزوة المريسيع عندما قال: "أَقَدْ فَعَلُوهَا( يعني النبي والمهاجرين قَدْ كَاشَرُونَا فِي بِلادِنَا، وَاللَّهِ مَا أَعُدُّنَا وَجَلابِيبَ قُرَيْشٍ هَذِهِ، إِلا كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ. أَمَا إِنَّهُ وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ (يقصد نفسه)، مِنْهَا الأَذَلّ، َ(يقصد النبي صلى الله عليه وسلم)"، فجاء القرآن بمقولته كاملة غير منقوصة. وعندما هم عمر بن الخطاب بضرب عنقه، قال له من بعثه ربه رحمة للعالمين" دَعْه،لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ". وعندما أتى ابنه عبدالله إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً منه أن يأمره فيحمل إليه رأس أبيه خوفاً من أن يأمر أحداً غيره بقتله فلا تدعه نفسه ينظر إلى قاتل أبيه يمسي في الناس، فيقتله، فيقتل مؤمنا بكافر، طمأنه رسول الله صلوات الله عليه وسلامه بقوله:"بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". وعندما مات، أعني ابن أبي، كفنه الرسول صلى الله عليه وسلم بثوبه وصلى عليه، لولا أن نزل القرآن بقوله تعالى:" ولا تصل على أحد منهم مات أبدا". ومع كل ما ارتكبه أولئك الخراصون المكذبون في حق الذات الإلهية وفي حق الرسول والقرآن، نجد أن الله تعالى يعاتب نبيه على حزنه على تهكمهم وسخريتهم وإعراضهم عن الحق، فقال تعالى:" قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ". ثم يعقبها بقوله تعالى:"وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ". وهو من جنس قوله تعالى:" لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين"، ومن جنس قوله جل ذكره:" فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا". خاطرة كيف فات على الدكتور محمد العريفي، وهو يصف النبي الكريم بأنه كان يبيع الخمر أو يهديه قبل بعثته، أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل مبعثه، من الحنفاء الأوائل الذين كانوا لا يسجدون للأصنام، ولا يأكلون ما ذبح على النصب، ولا يستقسمون بالأزلام، ولا يأكلون الميتة ولا الدم ولا لحم الخنزير، ولا يتعاطون الخمرة، سواءً أكان شرباً أم بيعاً أم إهداء، ويحيون الموؤودة؟. وخاطرة أخرى في لقائه في برنامج (بلا حدود) على قناة الجزيرة، انتقد الدكتور أحمد جاب الله، مدير المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس، ونائب رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، بعض تصرفات الجالية الإسلامية في فرنسا، التي قال إنها تجلب لها متاعب هي في غنى عنها. أحدث ما قامت به تلك الجالية، والكلام لا يزال للدكتور جاب الله، ما قام به بعض المتنفذين هناك من دعاة ومشايخ، من إصدار فتوى باللغة الفرنسية، وزعت على المساجد والمراكز الإسلامية في فرنسا، مضمونها "تحريم المشاركة في الانتخابات الفرنسية، وأن من يشارك فيها من المسلمين فهو كافر!". ومع ذلك، لا زال فينا من يتساءل ببلاهة، وأحياناً ببلادة: لماذا يكرهون المسلمين؟