تجتاح المرء حالات تجعله يشعر أحيانًا بأنه نشيط وله قيمة ولديه طاقة كبيرة للعمل، وتساوره حالات أخرى يشعر فيها بالخمول والعجز والبؤس. وهناك من يرى أن تلبية المرء للحاجات البيولوجية الأساسية كالأكل والشرب والنوم والجنس، تكفل له العيش فقط. وهذه الأمور يشترك فيها مع الكائنات الحية التي تعيش مادامت تتوفر لها المقومات السابقة. أما الحياة، فهي أرقى من مجرد العيش، وهنا يصح أن يكون الإنسان الحر هو الذي يحيا الحياة الكريمة التي يطمح إليها وتُحقق الأهداف السامية للحياة. وهناك من يجد بغيته كاملة في العيش فقط وليس لديه ما هو فوق ذلك، في حين أن هناك من منحه الله عقلا وقدرة على التميز، فيظل يبحث عن حياة أفضل ينتج فيها ويكون ذا تأثير وفعالية في المجتمع. ومن باب البؤس نسمع من يقول بأنه "عايش في هذه الحياة"، وكأنه قد حُرم الحياة الكريمة التي يستحقها. وأتذكر أغنية قديمة لسميرة سعيد، تقول كلماتها: الدنيا كده، على ده وده ناس تتهنا، وناس تتمنى وناس مفارقه كده زي حالنا وآدينا عايشين، وآدينا ماشيين إن كان راضين أو مش راضين ومن الواضح أن الكلمات السابقة التي كتبت باللهجة المصرية الشعبية تقرّب لنا المفهوم، وتشرح بدقة متناهية الحالة النفسية التي يشعر بها المرء الذي لا يلقى حيلة أمامه لكي يُغير من واقعه، ويجد أنه ملزم بالرضوح لما هو حاصل، ولا يهم أن يكون راضيًا أو غير راض. وهذه الحالة النفسية يمكن أن تكون حالة فكرية تتشبث بالإنسان في فترات معينة بسبب صعوبة تحقيق ما يتمناه، وهي أشبه بالإحباط الذي يخيم على المزاج حينما تقف الصعوبات والعوائق أمام طموحات المرء؛ لكن هذه الحالة السلبية لا تلبث أن تنمحي عند البعض وخاصة من القادرين على البحث عن البدائل، لكن صنفًا آخر من الناس لا يستطيعون التخلص من هذه الحالة البائسة وربما تصبح سمة نفسية لهم أكثر من تعبيرها عن واقع حياتهم. البدائل الممكنة أو المحتملة أو المتوقعة يمكنها أن تخفف من الكآبة التي تلوح مع كل عائق يقف في طريق المرء، وخاصة في الأمور المادية والعملية. لكن هل مثل هذه البدائل متاحة في حال الحب الذي تشير إليه الأغنية الشعبية؟ ومن المؤكد أن كل شخص مهما كان شبيهًا لآخرين فإنه يحمل سماته الخاصة ولا يصلح أن يكون بديلا لأحد أو عن أحد، فالمحبوبة المفقودة مثلا، ليس هناك ما يُعوضها بذاتها أبدًا ولا حتى يجلب السلوى كما يشير القول الشعبي بأن «العذارى عن بعضهم يسلّون». ومن الواضح أن الأغنية السابقة قد حملت قمة المأساة في البيت الذي يشير إلى الفراق الذي يجلب الفقد وربما يتسبب فيما هو أشد وأسوأ على النفس البشرية. ولا بد من التأكيد أن البديل ليس في موضع التفضيل أو التقليل مع سابقه، ولكن المسألة التي تطرحها الأغنية هي فكرة الفراق الذي لا يمكن تعويضه لأنه حدث صعب. وكل من فقد عزيزًا عليه، يعرف بدقة معنى تلك الأبيات ودلالتها المأساوية ويتفهم المقصود بأن الإنسان يرضى بالعيش في هذه الحياة بسبب انعدام أي خيارات أمامه يمكنه أن يقوم بها يمكنها أن تعيد الأمر كما كان أو أن تغير من الحال. ولأن حالة الفقد حالة قاسية على النفس ويصعب على المرء التكيّف معها، فإن هناك وسائل تستخدم لتخفيف الصدمة أو امتصاصها لكي يتعايش المرء مع الواقع، وتختلف هذه الوسائل في كل مجتمع ولدى كل أمة وشعب من شعوب العالم؛ لكنها تشترك جميعًا في اللجوء إلى الجانب الروحي لتقبّل هذا الواقع كما هو والرضا بما هو مقدر على الإنسان في هذه الحياة.