والقلب ينزف حزناً على مصر ، والدماء في ملعب الكرة .. يلحّ على عقلي حسني البُرزان ، الصحفي الذي لا يستطيع الخروج من بوتقة جملة أزلية يبدأ بها مقاله ولا ينهيهه حتى نهاية مسلسل صح النوم . ذاك المسلسل الذي تابعناه بشغف .. وعشنا ضحكات جميلة معه ، وقتها لم نفهم جيدا مغزاه ، ومات حسني البُرزان (نهاد قلعي قبل أن يرى نبوءته) ، «إذا أردنا أن نعرف ما في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا في البرازيل » ، والبون شاسع مسافة وفكراً بينهما . المهم الآن ، إذا أردنا أن نعرف ما يحدث في سورية علينا أن نعرف ماذا يحدث في اليمن، وما يحدث في اليمن علينا معرفة ماذا يحدث في ليبيا ، وما في ليبيا يجب أن نعرف ما حدث ويحدث في مصر ، ومن ثم نصل للشرارة الأولى تونس .. ومرد كل ذلك لنعرف ماذا حدث في العراق كنموذج للاحتلال ، وحتى لا يكون احتلالا وتأخذ الشعوب مصيرها بذاتها ، اشتعل البوعزيزي فاشتعلت تونس وكانت السلسلة. هي الفوضى الخلاقة التي بشّرنا بها بوش في دعوته ، وأكدت ذلك كونداليزا رايس ،آمن بذلك من آمن وكفر به من كفر .. وكنا في حيرة عن أي فوضى يتكلم وكيف يُخلق شيء من الفوضى ؟!! ، حتى بدأ يأتينا اليقين بصدق دعوى الفوضى ، ولكنها فوضى خلاقة للدم والعذاب والعبث ، فوضى إحالة الديار لكومة من القتلى يقابلها كومات من الدمار ، حتى كادت الحلوق تجف عطشا وتجف الحيوانات جوعا ..لا تخسر فيها أمريكا جنودا ولا مالا ، وتصل للشعوب رسالة المجنون أفضل من الذي أجنّ منه . فصادرت الثورات وأشعلت الحرائق عبر طابور إما يسير وهو لايدري، أو يسير وهو يدري، وكلاهما عبارة عن طامة تحل بالأمة العربية ، وهذه الطامة الأمريكية تكلم عنها بصدق وصراحة مدير أمن دبي ضاحي خلفان . هذه الشعوب التي تثور ضد الدكتاتورية وحكم الفرد والعنف ومصادرة الحريات ، هذه لا قاعدة لديها ، ولا تحضر لحكومة ظل من التكنوقراط الذين من الممكن ان يسيّروا دفة الأمر في المرحلة الانتقالية ، ربما خرجت تونس ببعض الوقاية كون رجال ثورتها مسيسين أصلا . لا يستوي البيت والأساس من تبن وليف ، ولا تستوي الحياة المبنية على قاعدة الفوضى ، والفوضى التي تم خلقها وهذه الفوضى لو لم يكن لها جذور لما نمت وتشعبت ، وأصبحت بهذا القدر من الدم ، البلدان العربية بدلًا من أن تتسابق للحرية والحياة أصبحت تتسابق للموت ، ليس فداء للأوطان ولكن فداء للتعصب ، وهو تعصب أعمى القلب والنظر ، وما كان لهذا التعصب أن يكون كذلك لو كانت القاعدة جيدة ومبنية على أسس الحرية والديمقراطية والسلامة .. والنسيج الشعبي قوي متين .. يريد الشعب غالبا عيشا كريما ، عملا شريفا ، خبزا للأفواه ومسكنا ، وأمانا في نطق الكلمة، وأمانا لو كان له حق ، يتساوى فيه أمام القانون ابن البواب مع ابن الوزير. ويفهم أن الحرية : هي أن تمارس حقوقك كاملة وتقوم بواجباتك كاملة دون أن تمس بحرية الآخرين وحقوقهم ، والديمقراطية ، رغم ما قاله برنارد شو هازئاً : هي أن يقود ركاب القطار القطار ، إلا أنها تعني تداول السلطة ، والرضوخ لصناديق الاقتراع وما تأتي به ، واحترام النتيجة مهما كانت لا تتطابق مع ميولنا ورغباتنا . فلا يمكن ان نريد ديمقراطية على مقاسنا الخاص .. إن ما فعلته أمريكا في بلداننا العربية أنها أرادت لنا ديمقراطية مفصلة على مقاسها. عندما يرفع المتظاهرون مصطلح الحرية والعدالة والمساواة ، وهي مصطلحات جميلة وبراقة ، ولكن لا يجب أن تهرب الشعوب من تبعيات هذه ، فتكون كل فئة تريد المساواة لها ولمن هم مثلها ، والعدالة يجب أن تكون بصفها فقط ، والحرية أن تكون حريتها في مصادرة حرية الآخرين .. الديمقراطية كالحياة هي كم كبير من الأشياء المتشابكة والمتوحدة في مضمونها من جهة، وفي متطلباتها من جهة أخرى . وهي حياة أمة تريد أن تثبت قدمها جيدا في أرضها ووطنها بعيدا عن الفوضى بمواصفات أمريكية .