قطر والإمارات والكويت تدين قرار إسرائيل احتلال قطاع غزة    المملكة ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان    خطط أرامكو السعودية التوسعية في النفط والغاز والتكرير تعزز زيادة تدفقاتها النقدية    الفيحاء يتعاقد مع "الخيبري"لمدة 3 سنوات    وزير الخارجية يتحرك دبلوماسياً لوقف الانتهاكات في غزة    برشلونة يعيد شارة القيادة لتير شتيغن    بيع صقرين ب 180 ألف ريال في الليلة الأولى لمنصة المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور    جمعية فضاء العالية للتنمية الشبابية تختتم برنامج ماهرون الصيفي    ضبط 4 باكستانيين وهندي في الشرقية لترويجهم (32) كجم «لشبو»    السعودية توزّع 847 قسيمة غذائية في عدة محافظات بالأردن    فيصل بن فرحان ووزير خارجية ألمانيا يبحثان التطورات الأخيرة في قطاع غزة    صقارون دوليون يثمنون تسهيلات نادي الصقور في نقل واستضافة الصقور    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 .. ختام ربع نهائي بطولة Rainbow Six Siege X    النصر يتحرك لضم جناح منتخب فرنسا    البرازيل «تستنكر» ضغوط أميركا على القاضي المكلف بقضية بولسونارو    مواهب الذكاء الصناعي تضع المملكة ضمن أفضل 20 دولة    "القرني" يختتم دورة تدريب المدربين    أمير جازان يرعى ملتقى أبحاث السرطان 2025 بجامعة جازان    الشيخ أسامة خياط: يدعو لغرس قيم البر والتقوى في الأسرة والمجتمع    الشيخ عبدالباري الثبيتي: سورة قريش تُجسّد أعظم النعم .. الطعام والأمان    المصالح الوطنية السعودية    الخلاف يزداد بين برشلونة وحارسه شتيغن    النفط يتكبد خسارة أسبوعية حادة    سفير جمهورية مالطا لدي المملكة يزور قرية جازان التراثية    الربيعة: تطبيق "نسك" متاح مجانًا دون استهلاك بيانات الإنترنت    أنواع فيتامين D وجرعاته الصحيحة    النصر يكسب ودية "رايو آفي" البرتغالي برباعية    %83 من القراء هجروا المجلات    ضبط مواطن لارتكابه مخالفة رعي في "محمية الإمام تركي الملكية"    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    «المساحة الجيولوجية»: رصد زلزال في الإمارات بقوة 3.4 درجات    (عشان نصور،،،،،،!)    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    سبعة آلاف خطوة تعزز الصحة    بهدف تطوير الخدمات الرقمية وتعزيز جودة الحياة.. أمانة منطقة عسير توقّع مذكرة تفاهم مع "بلدي" بحضور وزير البلديات والإسكان    نائب وزير الحرس الوطني يطلع على برامج الإرشاد والتوجيه لتعزيز الوعي الديني والفكري    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    رئيس وزراء موريتانيا يغادر المدينة المنورة    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    العطش يلتحق بالجوع في غزة وتحذيرات من توسيع إسرائيل عملياتها    موسكو تدرس تقديم تنازلات لترمب بشأن أوكرانيا    ديوان المظالم يفتح باب التقديم على التدريب التعاوني لطلبة الجامعات والمعاهد السعودية    المجلس الاستشاري لمركز صحي المرابي يناقش احتياجات الأهالي مع تجمع جازان الصحي لتعزيز الخدمات الطبية    2 مليون دولار لتأمين «ابتسامة» نجمة هوليود    طهران تعدم متهماً بالتجسس لصالح إسرائيل    استهداف (أبو سلة) بطائرات مسيّرة.. اشتباكات بين الجيش اللبناني ومطلوبين في بعلبك    احتفال الفرا وعمران    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    الأرصاد: أمطار متفرقة حتى منتصف أغسطس    أم ومعلمة تقتحمان مدرسة لسرقة «امتحانات»    فتح باب التقديم لدعم المشاريع السينمائية    إنجاز طبي في الأحساء.. زراعة منظم ضربات قلب لاسلكي لمريض    فريق سفراء الإعلام والتطوع" يزور مركز هيئة التراث بجازان    الأمير فهد بن سلطان يطلع على نتائج القبول بجامعة تبوك.    مركزي جازان ينجح في إزالة ثلاث عقد في الغدة الدرقية الحميدة بالتردد الحراري دون تدخل جراحي    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة جواهر بنت مساعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية في نص ( ذاكرة لشوارع منسية ) للشاعر عبدالله الوشمي
اجتراح الذاكرة !!
نشر في الرياض يوم 11 - 08 - 2011

على ضفاف الذاكرة يورق النسيان خريفا جديبا يأتي على مباهج الأغصان ، حتى يعيدها وحشتها الأولى ، فيذرها جدبا كأن لم تغن بالأمس ، ولم ينم على حوافها علائم وارفة لخضرة الحياة .
والنسيان هو الفناء الذي يترصد الذاكرة ، بينما الذاكرة هي ذروة سنام النضال الإنساني تجاه الفناء الذي يترصد أنفاس الحياة فوق الأرض ، قبل أن يودي بها الفناء الأخير إلى أرذل النسيان تحت الثرى ، ولذا لا تتخلق الذاكرة إلا في رحم النسيان ، ولا تولد إلا على مهد منه ، بينما النسيان سياج أبدي مضروب حول كل جهات الذاكرة في متلازمة قدرية لا انفكاك لها ولا تراتبية تحكم طرفيها ، إنما سجال أزلي بين سطوة المحو وأحلام البقاء !.
وعليه نقول إن اجتراح ذاكرة للأشياء هو الحيلة الإنسانية الأقدم لمجابهة النسيان ، وهو جزء من صراع الإنسان الأبدي مع الفناء بمختلف أشكاله وتجلياته ، والتي يعد النسيان ضمن صورها الأقسى ، حتى ليبلغ به الحال أن يكون معادلا للموت ذاته ، بل ربما عد الموت فناء رحيما إذا ما قيس بمواجع النسيان وفادح خساراته في كثير من الأحيان .
وهكذا فإن تأسيس ذاكرة ما كخطوة في المناجزة الطويلة للنسيان لا يعد عملا ذا جدة ولا طرافة ، بل ربما يدخل ذلك دائرة اليومي والمعتاد ومكرور النشاط الإنساني المشترك دون أية ميزة أو تفرد .
وحين يكون العمل الإبداعي هو الناهض بمهام الذاكرة فإنه حتما يتحرك ضمن إطارين اثنين : الإطار الفني ، والإطار التوثيقي ، ويراوح بينهما بحرفية لا تكتفي بالأول فتكون محض إبداع لا أثر فيه لمكنون الذاكرة ، ولا تتماهى بالآخر فتكون مجرد وثائق متلبسة حللا فضفاضة من الإبداع لا تمنحها شرعية الانتماء لمفهوم العمل الإبداعي الحقيقي .
وحين يعنون الشاعر عبدالله الوشمي نصه الطويل المنشور ضمن ديوان ( قاب حرفين ) ب ( ذاكرة لشوارع منسية ) فإنه يترك انطباعا أوليا لدى قارئه أن ثمة محاولة لاستنبات ذاكرة ما من خلال النص الشعري ، وهذه الذاكرة وبحسب منطوق النص مجيرة ل ( شوارع منسية ) .
ولا نحتاج إلى مزيد تدبر لنستوضح من العنوان أن الباعث على تأسيس تلك الذاكرة هو تدارك الذي تبقى من رسوم تلك الشوارع في الذاكرة بعد أن قضم النسيان أطرافا غير يسيرة منها حتى أوشكت أن تكون غيابا ونسيانا.
فإذا ما استذكرنا الذي أشرنا إليه سابقا من أن الإنسان يبتكر دائما ذاكرته ، أيا ما تكون تلك الذاكرة ، واستذكرنا كذلك أن العمل الإبداعي الذي يحيل نفسه قالبا للذاكرة لابد أن يجمع إلى جانب التوثيق شرطه الإبداعي ، من هنا كان لابد أن نقف إزاء سؤالين هما محورا هذه القراءة
أولا / ما الجدة أو الطرافة التي يتوخى النص الإتيان بها ، وهو لا يعدو أن يؤسس ذاكرة لشوارع منسية مثلما يؤسس البشر أبدا أشكالا شتى من الذاكرة وبصور مختلفة ؟، وهل تحقق للنص أن يكون بالفعل ذاكرة للشوارع؟ .
ثانيا / ما مدى المرونة التي يبديها النص وهو يراوح بين الالتقاط المباشر لمفردات الذاكرة ، وضرورته الإبداعية التي تخلق منه كيانا له أحقية الانتماء إلى حقول الشعر ودوائر الإبداع ؟.
إن المعول عليه الأول في اعتبار المكتوب ذاكرة نصية ، هو العنوان المعلق في هامته ، والذي يعتبر إعلانا ابتدائيا لهوية النص باعتباره وعاء يدخر الذي تبقى من فتات الشوارع المنسية ، ويعيد تنضيده وفق رؤيته الإبداعية ونسيجه الفني .
لقد أعلن النص عن ذاته بوصفه ذاكرة إلا أن ذلك لا يعد القرينة الكافية للتثبت من مواءمة تلك الهوية المعلنة مع حقيقة تمثل النص لمفهوم الذاكرة من حيث هي حافظة حصيفة لمختلف التفاصيل .
وليس ذلك فحسب بل هي أشبه بالرحى التى تعيد تشكيل و إنتاج ما يلقى إليها ليكون مادة صالحة للاستخدام لإشباع النهم المتزايد لدى الإنسان بإحالة خزائن الذاكرة واقعا نابضا بالحياة ، عوضا عن كونها مجرد صفوف من الصور الباهتة والأحداث الغابرة ، تماما مثلما أن النص الإبداعي يعمل بآلية الرحى ليحيل الأمس رغيفا طازجا على مائدة الواقع ، ولو كان رغيفا من الشعر.
إن العودة إلى النص وتفاصيله تجعلنا على بينة من تحقق مفهوم الذاكرة عبر النص وفق مستويين :
مستوى الشكل
مستوى المضمون
الذاكرة الشكل /
يلتحم النص بمفهوم الذاكرة عبر بنيته الشكلية التي تموضعت في عدد من المقاطع المتتالية بعناوين مختلفة دون أن ترتبط بأي مشترك فني من جهة البنية الشكلية فيما بينها سوى الانضواء تحت العنوان الرئيس ذاته الذي يوحد مقاطع النص باعتبارها مكونات ذاكرة شعرية لشوارع منسية ، ولعل الرابط الوحيد الذي يتبدى على استحياء هو سمة ( الومضة ) التي شملت كل مقاطع النص على تفاوت بينها في حجم تلك الومضة وشكلها .
فإذا ما عرفنا أن الذاكرة في صورتها الأولية هي أمشاج شتى وقوائم لا نهائية من مختلف أنواع المخزونات ، أمكن لنا حينئذ أن نتوافر على معرفة نقطة التقاء النص بالذاكرة ، والتي سوغت لكاتبه أن يسمه بالذاكرة ، ويبذل في ذلك وسعه ، حتى أن النص ليبدو أشبه بالذاكرة فعلا في بدئه ونهايته ، فكل مقطع منه يمكن أن يكون بداية ، مثلما أن نهايته تظل قابلة للتمدد والإضافة ، دون أن يحدث أي من ذلك أثرا في بنية النص ، سواء على مستوى الشكل أو المضمون ، تماما كما هي الذاكرة التي لا يمكن أن تحدد نقطة ما بعينها تكون فاتحة لها ، بينما تظل أبدا قابلة للاستيعاب والإضافة المستمرة .
الذاكرة المضمون
ربما يكون من اليسر بمكان أن نتبين مدى انسجام النص مع حقيقة كونه ذاكرة انطلاقا من بنيته الشكلية وإطاره الخارجي ، على أن مقاربة تلك الحقيقة استنادا إلى حمولات النص ومضامينه ، وانطلاقا من عمقه أمرا ليس باليسير ، والتوصل إليه يتطلب إيغالا فيما يسيجه ذلك الإطار الخارجي بداخله من البنى اللغوية ، وما تنطوي عليه من مضامين النص وطاقاته النفسية والعاطفية ، وما استطاع أن يؤويه إلى عوالمه من دلالات تلك الشوارع وظلالها ، وما تمليه عملية التذكر ، ومدى حيوية تلك العملية ، إلى جانب الصهر الإبداعي لكل ذلك في قالب النص الذي اضطلع بمهمة شاقة توثق للإبداع وتبدع للتوثيق لتثمر ذاكرة تختزل بداخلها الشوارع ، ويمتزج فيها الزمان والمكان لتبقى شاهدا يتأبى على النسيان .
والخوض في عمق النص يستدعي أولا أن نرصد ملامح تلك الشوارع ، وأن نقارب كنه حضورها بين مقاطعه انطلاقا من كونها موضوع اشتغاله والباعث على كتابته .
وحين نفرغ من قراءة النص فإن الأثر الأعمق الذي يتشبث بنا منه وينغرس في الوجدان والذاكرة ، هو حتما ذلك التقاطع الكبير بين الشارع والإنسان ، والذي شكل الحضور الأبرز والقيمة الوجدانية الأكثر إلحاحا عبر كل أجزائه.
واللافت أن النص قد عمد إلى تأكيد تلك القيمة وفق عدة مستويات ، تتبدى بسيطة دارجة في بعض مقاطعه ، وتتجذر على نحو أكثر عمقا في مقاطع أخرى ، وتبلغ مستويات صادمة وغير متوقعة في مفاصل بعينها من هيكل القصيدة .
وحين نفتش عن تلك العلاقة والتقاطع بين الإنسان والشارع ، أو ما يمكن أن نسميه (أنسنة الشوارع)(1) ، يمكن أن نعثر على شيء من ذلك في إضفاء بعض الصفات واللوازم الإنسانية على جمود الشوارع ، مثلا في الجزء المعنون ب ( دهشة ) تظهر الشوارع باكية
قال حتى الدكاكين تفتح أفواهها
دهشة
من بكاء الشوارع
والمقطع يصف مشهدا إنسانيا بالدرجة الأولى تتجاذب بطولته دكاكين دهشة وشوارع باكية ، وفي مشهدية غير بعيدة يقول المقطع التالي المعنون ب ( غبار ) :
الغبار دموع الشوارع
والمقاعد ترقب صامتة
مهرجان البكاء
ويتواصل خلع السمات والأفعال الإنسانية على الشوارع التي يظهر أحدها باسما وهائما في مقطع (قبلة )
شارع في المدينة
يبتسم حين مشت فوق
خديه سيدة
ويقبل أرجلها هائما
ويعتري الشوارع ما يعتري الإنسان من تباريح الحزن ومن الملل كما في مقطعي ( أسود ) و ( ملل )
مثل ساحرة
يتلوى هنا
تحت أقدامنا
ثم لا أحد يحس تباريحه غيرنا
ملل :
شارع في المدينة
مل من الوقوف على الطرقات
وسار إلى حيث يحتفل العابثون
وتمضي مقاطع النص قدما في توصيف تلك العلاقة في مستواها البسيط الذي ربما استلزم أن تكون مسميات تلك الشوارع مستعارة من معاجم الإنسان بإحالاتها المعبرة والمتجذرة في تاريخ الإنسان وغاياته
للشوارع أسماؤها
سيبويه
وابن ماء السماء
طارق
وابن سينا
ولا أعلم إن كان من التعسف أن نفهم أن انتقاء هذه الأسماء بالذات ، هو إشارة إلى هوية تلك الشوارع ، من حيث انتماؤها القومي للتاريخ العربي المتجسد في سيبويه والذي على الرغم من فارسيته كان العلم الأشهر في تاريخ النحو العربي ، وابن ماء السماء وهو في الغالب المنذر بن ماء السماء ، وطارق بن زياد الفارس العربي ، وابن سينا الشيخ الرئيس .
ولا اعلم كذلك إن كان التعسف سيبلغ مداه إن قلت إن استدعاء هذه المسميات بالذات يأتي اتساقا مع دلالة كلمة ( منسية ) في عنوان النص على اعتبار أن القيم الكبيرة التي ينطوي عليها استدعاء تلك الأسماء باتت نسيا منسيا في سياق الواقع ، ولم يعد من حضور تلك الأسماء إلا عناوين على واجهات شوارع منسية هي الأخرى ، في شكل فادح من أشكال الهزيمة التي تكحل الواقع كله بالسواد
الشوارع مهزومة
تتكحل في خلسة
بالسواد
ولعل ذلك هو باعث الإشارة إلى ( الصمود ) بوصفه سمة للشوارع تجابه به النسيان الذي ينهش واقعها وبالتالي بقاء القيم الرفيعة التي تنطوي عليها دلالات مسمياتها كما في مقطع ( حق )
قال لي
دونك الدرب لا تؤذه
أعطه حقه بالصمود
فإذا ما عدنا إلى تقصي ملامح الإنساني من سمات الشوارع في النص سنقف حينئذ أمام تلقائية الشوارع وهي تتنصل ببراءة من إثم ما يلحق العابرين من التيه
لكل الذين يتيهون في دربهم
لا تلام الشوارع
وفي هذا المستوى المبسط من تدرجات العلاقة بين الإنسان والشارع في النص ، تكون العلاقة ذات اتجاه واحد ، وينفرد الإنسان بسيادة المشهد كله ، حين يكون هو المانح الشارع مسمياته وصفاته ومواصفات حياته ، فيتقاطع الشارع مع الإنسان في أحواله المختلفة ، ويكون الإنسان هو الذي يهبه شكل الوجود ولونه وتفاصيله
ولماذا تكون الشوارع سوداء كالموت
نغمرها بالإضاءة
نحن من اختار لها ألوانها
بل ويسهم في منحه هويته وكينونته حين ينفرد حتى بتسميته فتكون التسمية استنساخا للهوية الإنسانية وامتدادا لها ، غير أن هذه العلاقة تبدو أكثر حميمية في مقاطع أخرى من النص ، وتنتقل من المستوى المبسط إلى مستوى أكثر عمقا تتحول فيه من الأحادية إلى التبادلية ، ويكتسب فيها الشارع حضورا أكثر فاعلية يخرج به عن جموده ليكون شريكا يتقاسم مع الإنسان مواجعه وهمومه :
الشوارع
هل تحاول درس التفاصيل
تقرأ كل الهموم على أرجل العابرين
تدغدغ أحلامهم
ثم تتركهم للدموع
وإذاً فالشارع الذي كان شغوفا بأرجل النساء لمجرد مشابهة النزق الإنساني تحول إلى قارئ لأرجل العابرين جميعا يتهجى فيها تفاصيل همومهم وأحلامهم ولو لم يكن بوسعه في نهاية الأمر إلا أن يتركهم للدموع.
ولأن التفاعل بات سمة هذه العلاقة التي تتحرك بين قطبين منتقلة من العمودي إلى الأفقي ، فإن الإنسان في مقطع آخر من النص عنوانه ( بكاء ) هو من يعطف على الشارع ويمسح دموعه
حين تبكي الشوارع
لا أحد يمسح أحزانها
غير أطفالنا
وتأكيدا على هذا التفاعل يشير النص إلى أن الطفل يبدأ تاريخه في الشوارع ،كما في المقطع المعنون ( شارع الحوامل ) وهو التقاط ذكي جدا للنص
يبدأ الطفل تاريخه
في الشوارع
وباستعادة الذي مر بنا من المقاطع التي تؤشر إلى هذه العلاقة في مستواها المبدئي البسيط ، ندرك أن ثمة فرقا وتطورا في العلاقة ،مثلا في مقطعي ( دهشة ) و ( غبار ) السابقين نرى كيف أن البكاء الذي كان لا يجيبه أكثر من صمت المقاعد ، قد عثر لاحقا على من يمسح له دموعه من أولئك الأطفال الذين يبدأون تاريخهم في الشوارع أجنة في بطون أمهاتهم الطائفات بهم على رصيف الحوامل .
لقد أوشك الشارع هنا أن يكون رحما يتخلق فيه التاريخ ، ويبدأ منه الأطفال طواف القدوم ، حتى إذا ما خرجوا إلى الدنيا استشعروا أن ثمة علاقة حميمة ورحماً قريباً تربطهم بذلك الشارع الذي احتوى فجر تاريخهم ، فإذا ما أبصروا أدمعه تسابقوا لمحوها وانطلقوا
يجعلون الشوارع ملعب أحلامهم
ونهايات أحزانهم
بل ويبلغ بهم العطف تجاه شوارعهم شفافية الشعر الذي تحترق بها الأكباد
حين تبكي الشوارع يلقي
الصغار قصائدهم في البكاء
وإذ ببكاء الشوارع ينال عقب صمت المقاعد أرقى درجات التفاعل الإنساني بالشعر الذي يرثي لهذه المدامع وذلك البكاء.
ولعل التاريخ الذي يبدأ من الشوارع إشارة ضمنية إلى انتقال مركز الثقل وقطبية العلاقة من الإنسان إلى الشارع فالإنسان الذي كان يتوخى في تسمية الشوارع استدعاء تاريخه ، وتفاصيل أمسه ويضفي صبغة الماضوية على الهوية الاسمية لتلك الشوارع ، مستعيدا من شخوص الأمس ما يرتضيه قناعا لمدلولات التسمية ، هو ذاته الإنسان الذي يبزغ تاريخه من أرصفة الشوارع ، حتى قبل أن يظهر إلى عوالم الوجود ، وكأن الشارع الذي أراده مسرحا للتاريخ عاد ليستلب التاريخ كله من قبل الولادة إلى الممات مرورا بكل التفاصيل
الشوارع تحملنا للحدائق ، أو للمقابر
تزرع أجسادنا – ربما – في المشافي الأنيقة
وفي السياق الحميم ذاته تتحرك مقاطع أخرى من النص لتكون الشوارع فيها فضاء للأحلام ولقاء الأحبة وصدرا لأشواق المحبين
أتخيل في - منتهى الحب – أن الشوارع
قد أصبحت
ملتقى للحمام المسافر
وفي مقطع (فرصة )
- الشوارع تمنحنا فرصة
للقاء الأحبة
نمسح أحزاننا معهم
أو نعيد خرائط آمالنا
ثم نرجع نحو البيوت القديمة
ويتصاعد توتر العلاقة وتحولاتها المفاجئة لتبلغ حدا تكون فيه الشوارع مانحة لأهم مكونات الهوية اللغة ، ويبلغ الاستلاب بالإنسان مداه ، ليكون تلميذا على أرصفة الشوارع ، منذورا بأجمعه لها
يا لهذي الشوارع
هل تعلمنا لغة الانتظار ، الدمار ، الحصار
ونحن تلاميذها
وكم طرقنا على بابها
وكتبنا حكاياتنا
وعشقنا بها
ولها
كان ينذرنا أهلنا
ثم يبلغ هذا المستوى من العلاقة ذورته قبل التحول إلى سواه
في زقاق الحواري القديمة
لا شيء غير الشوارع تشهد
للراحلين بأحلامهم
ونهاياتهم
وها هنا تستحيل الشوارع ذاكرة ترصد كل التفاصيل ، من سقوف الحلم إلى قاع النهايات ، قائمة مادتها مجمل ما ينطوي بين فاصلتي التوق والختام
والشوارع التي تغدو ذاكرة للإنسان هنا هي ذاتها الشوارع التي يجترح الإنسان لها ذاكرة من الشعر ( ذاكرة لشوارع منسية ) كما هو عنوان النص ، وبذا يكون كل من الإنسان والشارع ذاكرة للآخر ، نابضا بحصيلة عمره ، وتباريح أمسه ويومه .
غير أن النص لا يتوقف عند هذا الحد ، ولا يكتفي بأن يجعل من الشارع تاريخا ولغة وذاكرة بل يبلغ التحامه النهائي في أقصى ذرى التوحد ، وأعمق مستويات التقاطع ، حين يتماهى الإنسان بالشارع والشارع بالإنسان ويفنى الكل بالكل في نسيج فريد أديمه الأجساد ، ودمه دافق في جسد الشارع ، نسيج له ملامح الشارع وعيون الإنسان
خفف الوطء هذا دمي في أديم الشوارع
يسأل :
كم قاتلا سوف يدهسني
خفف الوطء ، هذي عيوني أنا
في أديم الشوارع كم
تتوسل أن ترحموا الميتين .
وتؤدي تقنية ( التناص ) التي يستثمرها النص هنا دورا هاما في تأكيد الفكرة ، فالنص يستحضر قول المعري
سر إن استطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
ليؤكد أن الفكرة في هذا المقطع هي امتداد للفكرة الرئيسة عن التحام الإنسان بالأرض بدءا وانتهاء ، وتماهي الإنسان بالشارع هو ضرب من الحنين إلى الجذور ، وفناء الجزء بالكل أو الفرع بالأصل ، وهو تبرير في غاية المنطقية والمشروعية لهذا التأزم الذي تسامى إليه النص عبر الأطوار المتعددة لعلاقة الإنسان بالشارع .
وعلى الرغم من أن مقاطع النص ترصد تطورات تلك العلاقة وتجسد تفاصيلها ، إلا أن ترتيبها في بنية النص لا يتم وفق مراحل العلاقة ودرجات تصاعدها ، انطلاقا من المستوى الابتدائي البسيط ، مرورا بالمستوى التبادلي ، ووصولا إلى التمثل الأخير لتلك العلاقة حين تبلغ ذروة الانسجام الكلي الأخير ، وإنما تجيء موزعة بين المقاطع وغير مرتبة ، في تأكيد جديد على أن النص ( ذاكرة ) والذاكرة لا تصنف موجوداتها ، ولا تفهرس محتواها .
والذاكرة هنا تنعتق من تقليدية مفهوم التذكر ، وتستحيل وعاء شعريا يستبطن كامل التجربة ويعيد إنتاجها بعيدا عن رتابة السرد التقليدي لمكنون الذاكرة ، وكل ذلك وفق رؤيتها الخاصة لعلاقة غدا كل طرف فيه ذاكرة الآخر وذكراه معا .
ولعل وصف الشوارع بالمنسية في عنوان النص هو آخر ما يستدعي التساؤل عن مدلوله بعد كل ذلك الحضور الباذخ للشوارع في النص ، والذي يصعب معه تقبل أن تكون شوارع بهذا الأثر ثم يصدق عليها أن تكون منسية ، ولذا يكون لزاما أن نتلمس للأمر وجها آخر خلاف ما يظهر للوهلة الأولى ، ولعلنا حين نروم ذلك نتطامن سريعا إلى أن المراد لا يعدو أن يكون انمحاء الملامح بين قطبي العلاقة ، الشارع والإنسان ، والتمازج الذي لا يعود معه أي منهما قادراً على معرفة تخومه وفصل خرائطه عن الآخر ، وتغدو المسافة بينهما نسيا منسيا ، تماما كتلك الجذور الوهمية التي تشد هوية الإنسان نحو التراب الذي يبدأ منه ثم يعود لينصهر في أديمه ، والتي رغم عراها التي لا تنفصم إلا أنها غائبة في مدى النسيان أبدا .
إنها علاقة أشبه ما تكون بالدائرة التي لا يعرف أبدا أين طرفاها ، تماما مثلما ختم الشاعر نصه بقوله
يستدير
يستدير
إلى أين أيها الملتوي حولنا
تحاصرنا بالسواد الكبير
الهوامش/
للباحثة الأستاذة هيفاء الحمدان دراسة بعنوان ( أنسنة الشوارع في الشعر السعودي المعاصر .. الشاعر عبدالله الوشمي أنموذجا ) يتناول بالبحث قصيدة ( ذاكرة لشوارع منسية ) حائز على جائزة نادي القصيم في النقد التطبيقي 1431


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.