لعل أحدث مَن تعرض لمسألة قوة الشعر العربي، عبر العصور، في مرابضه الأصلية في الجزيرة الربية ومنطقة المشرق العربي، وضعف هذا الشعر في البلدان الأخرى التي فتحها المسلمون ومنها مصر وبلدان الشمال الإفريقي، هو الدكتور حسين نصار. ففي كتاب صدر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر تحت عنوان «مرايا جابر عصفور/ دراسات مهداة» يثير حسين نصار مسألة ضعف الشعر العربي في مصر عبر العصور الإسلامية مقارنة بالشعر ذي القيمة العالية الذي انتجه عرب المشرق. وقد ظل الحال في مصر على هذه الصورة من الضعف حتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فما أن جاء البارودي وبعده شوقي حتى تغيّر الوضع وبدأ الشعر العربي في مصر ينتقل من حال إلى حال. أما لماذا هذا الجدب الشعري المصري، إن جاز التعبير، عبر العصور الإسلامية، فإن حسين نصار يعيدنا إلى مقال لأحمد أمين نشره في مجلة الثقافة في العدد 60 من سنة 1940، أجمل في عنوانه ما بذل من جهد لمعرف الأسباب وما وصل إليه من نتائج. قال: «العربي لا يشعر إلا في بيئته». وقد أراد بذلك أن العربي لا يستطيع أن ينظم الشعر إلا في البيئة البدوية التي نشأ فيها، وأن الأقطار التي فتحها العرب كمصر وفارس والهند والمغرب لم تُخرج شاعراً عربياً يُعتد به إلا نادراً، وأن مشهوري الشعراء في ذلك العصر كان موطنهم إما شبه الجزيرة العربية أو بادية العراق والشام. واستبعد أحمد أمين أن يكون العرب الذين نزلوا مصر قد قالوا شعراً ثم ضاع ما قالوه. واستند في قوله هذا إلى أن الرواة الأولين حرصوا على أن يرووا لنا كل ما سمعوه منهم حتى الأبيات التافهة في المسائل العارضة. واستخلص من هذا أن العربي لا يقول الشعر إلا في بيئته، فإن هو خرج منها اعتقل لسانه، مهما كان البلد الراحل إليه يتوفر فيه جمال الطبيعة وجمال الصنعة ومهما توفرت فيها بواعث الشعر. وعلّل ذلك بأمرين: 1 - طبيعة الرجل العربي. فقد ولد في البادية ونشأ فيها وعاش في أحضانها وألف ما فيها من حياة، فكان ابنها الذي يحيا حياتها، ويعبّر منها، ويصوّرها. فإذا دخل المدن الأعجمية ورأى معيشة اجتماعية تخالف معيشته وعاداته، وأوضاعاً تخالف عاداته وأوضاعه، اضطربت نفسه وتشتت ذهنه، واحتاج إلى زمن طويل - طال إلى أن صار قروناً في بعض الأقاليم - حتى يهدأ ويألف العيش الجديد. وهذا الاضطراب وتشتت الذهن لا يبعثان على قول الشعر. فالعربي كالسمك الذي لا يعيش إلا في البحر! أحمد شوقي 2 - طبيعة الشعر العربي. فهو شعر بدوي أنتجته البادية وفرضت عليه اتجاهاتها وألفاظها ومعانيها وصورها، فعبّر عن هذا أحسن تعبير، وتغنّى بمناظر البدو في صحراء ووديان، وحيوانات البدو من ظباء ووعول، ونباتات البدو من شيح وقيصوم. فلا يستسيغ ذوق العرب أن يتغنوا بإيوان كسرى ولا أهرام مصر، ولا يستسيغ ذوقهم أن يتغزلوا في النرجس والياسمين. ويرى أحمد أمين أن الشعر العربي احتاج إلى مران للذوق طويل، وإلى ثورة ليستطيع أن يساير الركب الفاتح في إخضاع البلاد الجديدة لفنه، والشعر العربي غير ثوري، بل هو محافظ كل المحافظة. وإنما يستطيع الشاعر والشعر العربيان أن يفعلا ذلك بعد أن يعيشا مدة في البيئات الجديدة ويألفاها فيكتفيا مع ما فيها من جديد، ويستطيعا أن يقولا الشعر الجديد، وليد هذه البيئات المخالفة للبيئة البدوية الأصلية. هذه هي نظرية أحمد أمين حول تأخر ولادة الشعر العربي في مصر سنوات طويلة بعد الفتح، وعجز المصريين بالتالي عن تقديم شعر عربي يعتد به. فصحيح أن مصر قدمت في العصر المملوكي وكذلك في العصر الأيوبي بعض الشعراء مثل البهاء زهير والقاضي الفاضل والجزار وابن النبيه، إلا أن هؤلاء هم، كما يصفهم لويس عوض في مقدمة ديوانه بلوتولاند، شعراء صغار متواضعو القامة الشعرية يذكرون عادة للإشارة إلى أن مصر لم يُخْلُ تاريخها الإسلامي من شعراء.. ويبدو على ضوء تاريخ الأدب العربي في مصر، أن البارودي الذي يُنعت عادة برأس مدرسة الإحياء كان الشاعر الأول الذي بدأ به عصر الشعر العربي في مصر، رغم طابعه الإحيائي البحث. ولكن قبل البارودي لم يكن هناك سوى نظم وناظمين للشعر. وبعده فُتح الباب على مصراعيه ليدخل شاعر كبير في قامة المتنبي، هو أمير الشعراء شوقي، ومعه نخبة من الشعراء الكبار. أبو القاسم الشابي ويبدو أن نظرية أحمد أمين قابلة لأن تُطبَّق في أقطار المغرب العربي أيضاً، إذ لم يؤثر وجود شعراء كبر فيها عبر العهود الإسلامي، ما عدا الأندلسي التي اتجه شعرها على العموم ناحية الغناء وأمكن لشعرائها أن يعبّروا أفضل تعبير عن حياتهم في بيئات جديدة ذات طابع مدني في الغالب، وإن استمر قاموسهم الشعري معتمداً اعتماداً كبيراً على قاموس المشارقة الشعري. كما يبدو أن طبيعة الأندلسي ومواصفاتها الاجتماعية كانت وراء وجدانهم الشعري إلى حد بعيد. ذلك أن مدن الشمال الافريقي في تلك الفترة لم تنتج شاعراً واحداً يقارع شعراء المشارقة. وقد ظل الأمر على هذه الصورة حتى الربع الثاني من القرن عندما نبغ في تونس أبو القاسم الشابي الذي كان، كما يقول عنه الباحث الليبي خليفة التليسي، أول شاعر أسكن الشعر في تونس. ولا ننسى أن الشابي ساهم في صنعه مؤثران: المؤثر الأول أدب وشعر المهجر، والثاني شعراء أبولو في مصر. طبعاً تغير مشهد الشعر العربي في القرن العشرين، فلم يعد شعراء العرب الكبار جميعاً من الشام والعراق والجزيرة العربية، إذ صار هناك شعراء كبار في مصر وأقطار الشمال الافريقي. ويعود ذلك إلى جملة أسباب منها أن سوق الثقافة العربية قد انفتح على مجمل الأقطار العربية، كما بات لشعراء اليوم زاد ثقافي ومعرفي وشعري أجنبي جرى توظيفه في إنتاج شعر عربي جديد مختلف. وإذا كان عرب المشرق بالذات هم الذين قدموا أجمل نماذج هذا الشعر الجديد، فإن أخوتهم في أقطار عربية كثيرة، في طليعتها مصر وتونس والمغرب، لم يقصروا في هذا المجال. وإذا كانت العبارة التي تقول إن الشعر العربي عبر العصور كان عبارة عن نبتة مشرقية خالصة ، وأن هذه النبتة كانت تذوي وتضعف إذا غادرت إقليمها الأصلي، فإن هذه النبتة قد نمت وأينعت لها ثمار خارج أرض المشارقة، فبات هناك شعراء كبار في كل بلد عربي سواء في المشرق أو المغرب. ويتأكد لنا ذلك إذا ما عرضنا للمشهد الشعري العربي في القرن العشرين. لقد كان هذا القرن قرناً شعرياً بامتياز سجل فيه الشعراء العرب من الشعر رفيع المقام ما لم يسجله أقرانهم من قبل. ولكنه كان قرناً اتسعت رقعته الجغرافية لتشمل مرابض للشعر لم يُعرف لها دور شعري في السابق، ولدرجة القول إن حركة الشعر العربي في العصر الحديث كانت من عوامل النهضة العربية ومن الدلائل الأكيدة على وحدة المصير العربي.