قرأت مقدمة الشعر العربي التي كتبها الشاعر أدونيس قبل أكثر من ثلاثين سنة. بقي صدى تلك المقدمة في ذهني حتى هذه اللحظة. شكلت مع مجموعة من القراءات الأخرى منظارا واسعا أطلع من خلاله على الشعر وأنصت للفن. كنت حينها طالبا في الجامعة. عرين المحددات والأوامر والالتزام بالمعايير المعدة سلفا. كانت الكتب التي بين أيدينا ضخمة تفوح منها رائحة الأيادي الكثيرة التي تعهدتها بالتكريس عبر القرون. كانت مقدمة أدونيس ثورة على هذه الكتب. لم تكن ثورة تُمرِدُك على الآخرين ولكنها تؤدي أيضا إلى الثورة على ذاتها. بفكر أدونيس هجمت على أدونيس من حيث لا يحتسب. ما الفرق بين فيروز وفهد بن سعيد؟ فجعت في البداية من طيش دماغي. كأني أقارن بين التفاحة والكُرنبة. لا يجمعهما إلا البعد الشجري. استأذنت أحكامي المسبقة وقررت أن أمضي قدما في المقارنة. أزلت عن الاثنين القشور التي تغلفهما. وضعت أغنية (حبيتك بالصيف) أمام أغنية (خلاص من حبكم يا زين). حاولت أن أعطي فيروز بونص درجات على الآلات الموسيقية والتوزيع ولكن في النهاية عجزت إلا أن أجد (خلاص من حبكم) أجمل وأنقى وأروع من أغنية فيروز (حبيتك في الصيف). يا إن مخي أقرب إلى الكُرنبة أو أن هناك شيئا لاعلاقة له بالفن في داخلي. بدأت أزيل القشور والأغلفة. كيف دخلت فيروز إلى ذاكرتي وكيف دخل ابن سعيد. ما الذي يحيط بفيروز وما الذي يحيط بابن سعيد؟ اكتشفت كماً هائلًا من الكلمات والأغلفة والتعليبات . الكلمات التي يلبسها ابن سعيد أينما ذهب: عربجي, قضوم, خرش, حراج, الجفر. بينما فيروز تحيط بها كلمات: جمال ، بهاء ، رقة. مهما كنتَ محايدا أو متعصبا سوف تقع في فخ التغليف والتعليب التي تقدم بها الأشياء. في كل مرة أسمع ابن سعيد أتخيله على دبّاب. يد فيها كبك والأخرى تتدلى منها قطعة القماش .كوعه أسود وساقه أشهب وعرقوبه متشقق. أما إذا تناولت فيروز فستسفع وجهي نعومة الحرير والعطور والنسيم الهابط من الجبال الخضراء على رطوبة البحر الناعمة. شلالات وغابات الأرز والجبال التي تكسوها الثلوج. إلى ما له نهاية له من الجمال اللفظي تاركين لابن سعيد أقبح التصورات. بدأ محمد رشدي (فنان مصري) قديم يكتسب جماهيرية كبيرة بصوته الجميل. خاف عبدالحليم حافظ منه فمدحه بطريقة خبيثة. قال إن رشدي أعظم فنان شعبي. كلمة شعبي ليست تعريفا وإنما تصنيف. كلمة شعب في ذهن الناس في هذا السياق تعني العوام. عندما يقال إن فلانا فنان شعبي فهذا يعني أنه فنان الجهلة والبسطاء وأصحاب الذائقة الفجة. لم نسمع أن أحدا علق صفة شعبي على رقبة فيروز أو طلال مداح رغم أن معظم أعمال فيروز وطلال مداح من الفن الشعبي. إذا قارنا على المستوى الشخصي سنجد أن ابن سعيد يفك الحرف في الوقت الذي لا تجيد فيه فيروز القراءة أو الكتابة. أشكر الأستاذ عبدالرحمن الناصر الذي أثار في مخيلتي هذه القضية في مقال له بنفس العنوان ..