وفد منظومة الطيران المدني يزور مصنع «إيرباص»    المنهاج التعليمية تتفاعل مع قصة الطفلة زارعة الكبد اليمنية ديانا عبدالله    رسميًا.. ليفربول يعلن تعاقده مع فيرتز لاعب ليفركوزن    إسرائيل تستهدف منشأة بوشهر الإيرانية ومخاوف من «كارثة نووية»    الأهلي المصري يعلن جاهزية كوكا لمواجهة بورتو في «مونديال الأندية»    أرامكو السعودية تدشن المركز الإقليمي للتنمية المستدامة للثروة السمكية في جزيرة أبوعلي    ضبط مصريين و6 مواطنين في تبوك لترويجهم مواد مخدرة    جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ضمن أفضل 100 جامعة عالميًا    جثمان الشاعر موسى محرق يصل اليوم والصلاة عليه غدًا    قرعة كأس السوبر تضع القادسية في مواجهة الهلال في هونغ كونغ    وفد وزارة الرياضة يدشن مشاركته في برنامج التبادل الشبابي بالمملكة المغربية    بعد الفوز بصعوبة.. الإعلام الأمريكي يُشيد بقوة المنتخب السعودي    خطيب المسجد النبوي: التفكر في تعاقب الأيام سبيل للفلاح وميزان للربح والخسران    الاتحاد ينافس موناكو على ضم بوغبا    خطيب الحرم: محاسبة النفس دليل على كمال العقل وسبيل للفلاح    مدير تعليم جازان يكرم "افتراضيًا" الطلبة المتفوقين دراسيًا والمتميزين في الأنشطة المدرسية    اغبرة تغطي معظم مناطق المملكة    هبوط خام برنت    أمير المنطقة الشرقية يؤدي صلاة الميت على والدة سعود العطيشان    أمانة تبوك تنهي المرحلة الأولى من تطوير طريق الملك فيصل    تغير خطط سفر السعوديين أزمات العالم    الكونجرس : تحديث أسلحة أمريكا النووية الأكثر تكلفة في التاريخ    1200 كائن فطريّ في الطبيعة    هل ستدافع عن موظفيك؟    أمير الشرقية: تسجيل مدينة الخُبر قفزة عالمية في مؤشر قابلية العيش تجسيد لدعم القيادة    مونديال الأندية .. الأهلي المصري يخسر أمام بالميراس بثنائية    تجريد المساحة وإعادة تركيب الذاكرة البصرية    خدمة الحجيج.. ثقافة وطن وهوية شعب    سجين العقل    الأردن: إصابة طفلين وأضرار مادية جراء سقوط طائرة مسيّرة    الاحتلال يسابق الزمن لابتلاع «سبسطية» الأثرية..    مشاعر الحج    عشرة آلاف خطوة تقي من السرطان    زرع مثانة في سابقة عالمية    أمانة تبوك تنهي المرحلة الأولى من تطوير طريق الملك فيصل    أمير منطقة جازان ونائبه يزوران شيخ شمل محافظة جزر فرسان    أمير منطقة جازان يتفقد مكتب الضمان الاجتماعي بمحافظة جزر فرسان    الولايات المتحدة تقرر فحص حسابات التواصل الاجتماعي لجميع المتقدمين للحصول على تأشيرة طالب    وكيل وزارة الحج والعمرة يدشّن جائزة "إكرام للتميّز" لتحفيز مراكز الضيافة خلال موسم حج 1446ه    الهلال الأحمر وتجمع نجران الصحي "بمنطقة نجران يدشّنان حملة للتبرّع بالدم    شاشات تفاعلية ذكية في المسجد النبوي تُقدّم محتوى توعويًا وإرشاديًا ب23 لغة عالمية    دول «التعاون»: اعتداءات تل أبيب «انتهاك صارخ».. روسيا تحذر أمريكا من دعم إسرائيل    جامعة الملك فيصل ضمن" التصنيف العالمي"    " مركز الدرعية" يطلق برنامج تقنيات السرد البصري    حققت حلمها بعد 38 عاما.. إلهام أبو طالب تفتتح معرضها الشخصي    2.7 مليار تمويلات زراعية    الإطاحة بمروجي مادة الأفيون المخدر في تبوك    عريجة يزف نجله محمد    تسمية إحدى حدائق الرياض باسم عبدالله النعيم    وزارة الصناعة تشارك في معرض باريس.. السعودية تستعرض فرص الاستثمار في صناعة الطيران    لن نستسلم وسنعاقب تل أبيب.. خامنئي: أي هجوم أمريكي عواقبه لا يمكن إصلاحها    دعوات لتسريع تطبيق حل الدولتين.. إدانة دولية متصاعدة لانتهاكات الاحتلال في غزة    يوليو المقبل.. إلزام المنشآت الغذائية بالكشف عن مكونات الوجبات    العلاقات الأسرية تساعد الأطفال على النوم الهادئ    تعادل تاريخي للهلال أمام ريال مدريد في مونديال الأندية    ميكروبات المطاعم تقاوم العلاج بالمضادات الحيوية    أمير الرياض يوجه بتسمية إحدى حدائق العاصمة باسم "عبدالله النعيم"    أمير تبوك يزور الشيخ أحمد الحريصي في منزله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتطرفون بين التكفير ومأزق الانفتاح القسري
نشر في الرياض يوم 11 - 03 - 2010

يتمنّى التقليدي التكفيري العودة إلى زمن سابق ، زمن كان يمارس فيه التكفير بحرية مُفرطة ، دون رقيب يرصد عليه شوارد التكفير ، بل كان هو الذي يقوم بمهام رصد شوارد التفكير ؛ ليقيم عليها صرحه التكفيري الذي يمنحه شرعية وجود في عالم احترابي مرعب ، عالم تمت صياغته على إيقاع ثنائيات الكفر والإيمان ، ليس وفق وجودهما كمصطلحين لمجرد الفرز أو التمايز العقائدي ، ولكن وفق مفهومهما الإقصائي العتيد في المنظومة التقليدية : منظومة التكفير والإرهاب.
قبل زمن الانفتاح القسري ، كان لخطاب التشدد الداعم لخطاب التكفير علاقة ودية أو شبه ودية مع كثير من وسائل الإعلام ؛ لأنه كان آنذاك إعلاما يصدر عن بيئة تهيمن عليها رؤى التشدد والتطرف أي أنها كانت بيئة بحكم تشددها ، تلغي الحساسية الإنسانية تجاه المقدمات الأولى للإرهاب ، كانت بيئة تمارس تطبيع مفردات التشدد والتكفير ؛ إلى درجة لا يستطيع فيها الراصد الإعلامي المتواشج مع العناصر الحيوية الفاعلة في هذه البيئة أن يميز شطحات التكفيريين . ولهذا كان يجري في هذه البيئة المتسامحة مع التكفير تداول أحكام التكفير المُوجّهة تجاه المخالفين من داخل الدائرة الإسلامية بوصفها عملية تصحيح وتنقيح ، أي بوصفها ممارسة إيجابية لابد أن تحظى وفق منطق تلك البيئة من وسائل الإعلام بالدعم الكامل . ولم تكن آنذاك وسائل الإعلام غريبة عن بيئة التكفير ولا ذات توجس من مصدري أحكام التكفير . وهذا ما جعل أحكام التكفير تظهر على واجهة الإعلام بحيادية تامة دونما أية إدانة ، بل وأحيانا يتم تداولها بكثير من التوقير والتبجيل !
اليوم يعيش خطاب التكفير زمنا مختلفا ، يعيش زمن اتساع نطاق الرقابة الإعلامية عليه ، تلك الرقابة التي تضع التصرفات اللامعقولة (والتكفير الإرهابي المتضمن للتحريض على القتل منها) تحت دائرة الأضواء الساطعة والحارقة أحيانا . لم يكن هذا يحدث حتى في الماضي القريب الذي كان سدنة التقليدية يحظون فيه بحصانة لم يحلم بها القديسون في أزمنة التقديس . ومن ثم كان دور الإعلام في زمن الإعلام المحدود أن يحجب الرؤية بدل أن يوسع نطاقها ، كان في الجملة إعلام تبجيل وتوقير وتبرير ؛ لا إعلام محاسبة ومساءلة وتنوير . اليوم تعولم الإعلام ، تعولم من حيث سياق الفعل الإعلامي ومن حيث سياق تلقي هذا الفعل ، أصبح أوسع من أن تحكمه الذهنيات الواحدانية التي تريد حصره في اتجاه واحد ومحدود ، والتي لابد في النهاية أن تجعله مجرد وسيلة (دعاية) لا تهتم بغايات هذا العمل الدعائي / الإعلامي .
لا خلاف في أن الغرب هو الصانع وهو الموجه لهذا الإعلام المتعولم ابتداء ، وهو الذي طبع هذا الإعلام بوعيه الإنساني الفريد . لهذا ، فالإعلام المتعولم في مجمله هو : ضمير إنساني بامتياز ، سواء من حيث الفاعل الإعلامي أو من حيث المتلقي الذي يصنع بخياراته توجهات هذا الإعلام . وبما أنه كذلك ، فهو المضاد بل والنافي بمجرد حضوره الفاعل لكل الأفعال الوحشية التي تجرح هذا الضمير الإنساني . إذن ، لدى هذا الإعلام اليوم حساسية إنسانية عالية تجاه كل ما يمس الإنسان . ولهذا فهو قادر على تتبع كافة أنواع الخروقات التي تشكل ممارسات اعتداء تطال الإنسان ، بل والحيوان أحيانا . وبما أن التكفير المتضمن لدعوات القتل هو من أبشع صور الاعتداء على الحقوق الطبيعية للإنسان ، فهذا الإعلام سيكون بالمرصاد لكل نزوات التوحش والافتراس الموجودة بكثافة عالية عند سدنة خطاب التكفير والإرهاب .
الجيل الجديد (الجديد نسبيا : بين الخمسين والخامسة والستين تقريبا) من التكفيريين بدأ يدرك هذا الواقع الإعلامي الجديد ، يدرك حقيقة كونه ( وحشاً ) تكفيريا في عالم ينحاز بوضوح لكل ما هو إنساني . الوحش لا يعلن عن نياته في زمن نفور الطرائد ، بل يتقدم بكل ما يعزز (وضعية الاطمئنان) تمهيدا للانقضاض المفترس . ولهذا نجد أن هذا الجيل بدأ يتحفظ كثيرا على تصدير تُهم التكفير ، ولا يقتحم غمار معركة تأييد الإرهابيين حتى في أحلك الظروف . لكن ، ليس هكذا يفعل رموز هؤلاء ، أقصد سدنة التكفير القدامى الذين يقفون في منطقة وسط ما بين عالم : الخَرَف وعالم : الجنون . هؤلاء ليسوا كتلامذتهم الأوفياء لخطاب التكفير ، والذين بدأ بعضهم ينتهج سلوكا براغماتيا واضحا ، خاصة بعد أن تدفقت في جيوبهم عشرات الملايين بفعل تحولهم من خطاب : ما يطلبه المستمعون في تسعينيات القرن الميلادي المنصرم ، إلى خطاب : ما يطلبه مُلاك الإعلام الفضائي في بدايات القرن الواحد والعشرين . الجيل الجديد أدرك أن للجهر بالتكفير وتأييد الإرهاب ثمنه الباهظ ، وهو الحرمان من عالميْ : الشهرة والمال . بينما الجيل القديم لا زال يتصور الأمور كما عهدها في شبابه قبل خمسين عاما . ولهذا السبب نراه ، وهو في أواخر عهد الشيخوخة ، يمارس من نزوات الطيش التكفيري ما يتحفظ تجاهه كثير من مُريديه الأوفياء ، بل ومن مريدي مريديه من مراهقي خطاب التطرف والتكفير والإرهاب .
هذا المأزق : مأزق الانفتاح القسري ، يعاني منه الجيل القديم الذي يقف على تخوم الخرف ، أكثر مما يعاني منه الجيل الجديد التكفيري ، سواء من الجيل الجديد أو من الجيل القديم ، يريد إبراء ذمته عن طريق الجهر بحكم التكفير . لكن الجيل الجديد يعتذر لنفسه بما يراه من ( قسوة الرصد الإعلامي ) في زمن الانفتاح القسري ؛ إذ يمنح نفسه عذرا في الصمت عن التكفير . بينما الجيل القديم لا يحس بوجود هذا الإعلام الراصد أصلا ، فضلا عن أن يدرك مدى قسوته وما سيسببه له من تضاؤل في فُرص الظهور وفرص استدرار الملايين ، وهي الفرص التي يسيل لها لعاب الجيل الجديد من التكفيريين . وهنا تحضر أو تُستحضر الضرورة كمعطل لأصول الأحكام فعند التقليدية ، يعرف الجميع أن أحكام التكفير وأحكام الجهر بالتكفير وأحكام المطالبة بمقتضيات التكفير من استتابة وقتل وتفجير ، هي أحكام واجبة النفاذ . وهذا واقع عند جميع أجيال التقليدية ؛ بلا استثناء . الفرق بين جيل وجيل في تحديد الموقف من التكفير ، هو فقط ، في مستوى الوعي بالضرورة التي تمنح التقليدي فرصة (التقية) في التكتم على هذه الأحكام التكفيرية واستحقاقاتها . الجيل القديم ، ونتيجة لغيابه عن واقع تعولم الإعلام يرى أن ليس ثمة ضرورة تبيح له التقية ، أو أن الضرورة حتى وإن كانت موجودة إلا أنها لم تبلغ الحد الذي يُجيز التكتم على أحكام التكفير . بينما الجيل الجديد ، ولأنه يعرف إلى درجة ما واقع الإعلام المتعولم ، يرى لرغبة ولرهبة أن الضرورة تبيح هذا التكتم ولو إلى حين !.
إذا أدركنا هذا ؛ استطعنا أن نفهم السر في أن بعض التقليديين يمارس مهنته في التلقين العقائدي التقليدي على امتداد أكثر من ثلاثين سنة ، ومع هذا لم يجرؤ على التصريح بفتاوى التكفير والإرهاب ؛ مع أنه وبحكم المنطق الداخلي للمنظومة التي ينتمي إليها ، يعتقد بضرورة التكفير في كثير من الوقائع ، كما ويعتقد بضرورة تنزيل حكم التكفير على كثير من الأعيان . هؤلاء وفي شيء من التذاكي المفضوح ، يمارسون التكفير بلغة الصمت عن التكفير . لا يخفى أنه عندما يصمت أحد المتخصصين في شؤون التكفير عن ظواهر تكفيرية يتأزم بها محيطه ، فهذا يعني التأييد الصريح ، لا مجرد التأييد الضمني ، خاصة وأنه يُدين مذهب الخوارج في التاريخ بأقسى ما تكون درجات الإدانة ، بينما يصمت عن الخوارج المعاصرين ، بل وأحيانا يُحاول تبرئتهم من هذه التهمة التي لها وقعها السلبي الكبير في التراث العقائدي للأمة ؛ عن طريق المدح بما يشبه الذم ، أو عن طريق رميهم بالتهم الصغيرة التضليلية ؛ بغية تبرئتهم من التهم الكبيرة التي تنفيهم وفق المنطق العقائدي التقليدي خارج دائرة المؤمنين بدين الإسلام .
لم تعد هذه المراوغة قابلة لتحقيق المزيد من النجاح ، إذ نلاحظ اليوم أن الإعلام القسري المتعولم ، بحكم دقته في الرصد وشموليته في الترصد ، لم يكتفِ برصد التُّهم التكفيرية التي يُصرّح بها التكفيريون بين الحين والآخر ، بل بدأ يرصد لغة الصمت تجاه ظاهرة التكفير . رموز التقليدية ، حتى تلك الرموز التي لم تكن الأضواء مسلطة عليها من قبل ، أصبحت اليوم ناطقة بصمتها في سياق الرصد الإعلامي الذي يستنطق الصمت . لغة الصمت تفصح عن نفسها ، لم يصبح الصمت (تقيّة) بقدر ما أصبح لغة فاضحة بأكثر مما يفضح الكلام الصريح . ولهذا يهرب بعضهم من الصمت إلى الكلام الذي يقول الكثير ولا يقول شيئا ، لعله يستطيع التخفي وراء فوضى الكلمات .
اكتشاف التكفيريين الصامتين أن الصمت أصبح لغة مفضوحة ، هو في تقديري ما جعل بعضهم يهرب إلى تأييد فتاوى التكفير صراحة ، بعد أن مارس التقية في هذا المجال لأكثر من ثلاثة عقود كاملة .
وحسب ما تقتضيه الحسابات المادية والمعنوية في السياق التكفيري ، يمكن اعتبار أن الصمت عن التكفير تكفير صريح ، ولكن دون أن يحظى صاحبة بوسام الشجاعة في التصريح . بينما التأييد الصريح يمنح صاحبه الوهج الإعلامي الذي طالما تحرّق إليه شوقا ، مشفوعا بوسام الشجاعة الذي يسحب وراءه أوسمة الإخلاص والورع والزهد ...إلخ فضلا عن دور هذا التصريح في منح صاحبه الغفران عن كل الممارسات السابقة المُدانة في السياق الأخلاقي لخطاب التقليد .
إن من يتأمل مجموع هذه الظروف التي وجد الخطاب التكفيري فيها نفسه محاصرا ، إضافة إلى مؤشرات أخرى ، سيجد أن توقعاته تقوده إلى التوجس من خطر داهم ، من أن هناك موجة تكفير قادمة ، تتبعها موجة إرهاب . لابد أن نستشعر الموقف الحرج للمكفراتية ، فبعد أن فضح الإعلام المتعولم لغة الصمت ؛ لم يعد لدى التكفيري ما يخسره ، خاصة بعد أن أيد كثيرون فتاوى تكفيرية ، ثم لم يخسروا شيئا لا على المستوى المعنوي ولا على المستوى المادي ، بل تم اعتمادهم كمخلصين وأوفياء من قِبل جماهيرهم داخل خطاب التكفير . ولعل هذا هو (الطُعم) الذي سيقود كثيرين من صغار رموز الخطاب التكفيري إلى الكشف عن هويتهم التي طالما تنكروا لها ظاهريا في زمن مكافحة الإرهاب .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.