من المؤكد أنكم تذكرون أولئك الذين أصابونا بالملل من كثرة كتاباتهم عن الإنسانية، والأنسنة، والرحمة، وحقوق الإنسان، كانوا يكتبون في الصحافة والمجلات، ويتحدثون عبر وسائل الإعلام.. مظهرين لنا نسكاً ورهبانية حول الإنسان وعذاباته، وحقه الكامل في السيادة، والتفكير، والعيش بحرية، وكرامة، وتحريم سجنه وتعذيبه، وإراقة دمه.. حتى لقد كنا نخشى أن تؤثر تلك الشفقة ويؤثر ذلك الحزن في قلوبهم فتصاب بالعطب والتوقف.. غير أن الأيام كشفت عن أن هؤلاء كذابون، ودجالون، ومرتزقة، ومدّعو ثقافة.. وأن ما كانوا يكتبونه لم يكن سوى، أسلوب من أساليب النفاق والارتزاق، وخداع المشاعر وقرصنة العواطف.. وأنهم راسبون في «مقرر» الإنسانية بكل امتياز، كما أنهم لم يحصلوا على أكثر من درجة «صفر» في علم الأخلاق. لقد توقف هؤلاء كلهم عن ذلك اللون من الكتابات الكاذبة، والخادعة، والمنافقة، تجلت أنفسهم عن بغضاء، وكراهية، لكل ما هو إنساني، وتبين أنهم كانوا يضمرون ما لا يُظهرون.. وأنهم أبعد ما يكونون عن الشرف الإنساني الذي ظلوا يتغنون به وقتاً طويلاً.. فلم يذرفوا دمعة واحدة، ولا قطرة حبر واحدة، على أطفال ونساء وشيوخ العراق الذين كانوا يبادون صباح مساء فتراق دماؤهم، وتداس كرامتهم تحت أحذية مرتزقة الاحتلال... لم يقولوا شيئاً عن خدعة الديمقراطية وفضيحتها.. حيث تجلت هذه الديمقراطية عن خطط خبيثة لإثارة الفتن، والنعرات الطائفية، والعرقية، والذبح على الهوية، بتدبير خبيث ومحكم الأطراف... لم يقولوا أن ادعاء الديمقراطية كان زائفاً، وكان يحمل باطنية مقيتة حولت الشعب الواحد تاريخياً إلى فرق للقتل والموت، وإثارة الضغائن والأحقاد، إلى درجة قد لا ينفع معها دواء، ولا علاج، لتظل المنطقة تحت نير الفزع، والخوف، والتوتر، والذعر، الدائم.. لم يكشفوا لنا عن أن وراء الاحتلال ما هو أسوأ منه، وهو ترسيخ الاضطراب والعيش في زوبعة العداء بين أصحاب الوطن الواحد، والذين حوّلهم الاحتلال إلى خصوم ألداء كي يظل تبادل الذبح بالذبح، وغسيل الدم بالدم، حرفتهم الدائمة بدلاً من حرفة التنمية والبناء..!! هؤلاء لا يزالون يزينون كل البشاعات وكل قبائح الاحتلال، مدعين بأن علينا أن نحسن النوايا فإذا أخطأ الاحتلال طريقه فتلك ضريبة الحرية القادمة..!! لم يذرفوا دمعة واحدة، ولا نقطة حبر واحدة، على المجازر المروعة وغير الأخلاقية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ولا زال.. هذا الشعب الذي يعذب عذاباً منكراً طيلة ستين عاماً بكل ألوان وأساليب الذبح التي تشمئز منها نفوس الأبالسة، والشياطين... لم يتحدثوا ولن يتحدثوا عن الألاعيب السياسية المفضوحة، التي تحاك ضد أبناء أمتهم، حتى ليخيل إليك أن دورتهم الدموية تتدفق بالحقد، والكراهية على هذه الأمة وأبنائها..!! فأين إنسانيتهم..؟ أين ما كانوا يكتبون..؟ لماذا يخبئون رؤوسهم وأقلامهم حينما يرون أن ذلك يتم تحت اللواء الغربي، والإسرائيلي، وبقية شعارات التحالف..؟ أين هو الإنسان الذي كانوا يكتبون عنه، ويدعون إلى رحمته والشفقة به وينكرون قهره وعذابه..؟ عندما كتب أحد هؤلاء المبشرين مرثية طويلة فيها كثير من النياحة وشق الجيوب حين ماتت الراهبة الهندية (تريزا) واصفاً إياها بأم البنين والبنات، وأم المحسنين والمحسنات وأم الإنسانية جمعاء، والتي حاربت، وضاربت، وصارعت من أجل حرية الإنسان وكرامته.. قلنا بارك الله فيك وفي رثائك، وفي وفائك لأصحاب القلوب الإنسانية أينما كانوا وكيف كانت ملتهم، ونحلتهم،.. غير أنه في الواقع كان يمارس ذلك النوع من المجون والرياء «الإنساني» والمكر الأخلاقي من أجل تلميع نفسه بهذه الشعوذات الرخيصة التي قد تنطلي على السذج والبسطاء... إنه تماماً يشبه ذلك الذي قال عنه الروائي الأمريكي العظيم «هرمان ملفل»: «كالثعلب يجد غذاءه بين القبور ومن الرمم الميتة فيستجمع أشد آماله حياة ونضارة»... فهذا وأمثاله لم يرثوا أكثر من مليون عراقي قتلوا دونما ذنب.. وقرابة نصف شعب كامل من الجرحى والمعاقين جسدياً وعقلياً.. لم يتحدثوا عن أربعة ملايين هجِّروا وأخرجوا من ديارهم بمباركة الأممالمتحدة«الأمريكية» الموقرة. لم يقولوا كفى أيها الظلم، وكفى لمجازر الإنسان والإنسانية..؟ وها هم اليوم يلتزمون الصمت الجبان، فلم يكتبوا كلمة واحدة حول ما يحدث في القدس، حيث تستيقظ هذه المدينة ولا تنام إلا على هدير الجرافات، وبناء المستعمرات، ودوس رقاب أهلها، وجرف تاريخها، وتحويلها إلى ثكنة من ثكنات الفجيعة التي تحمي حائط البكاء اليهودي.. فأين تلك الأقلام الرعناء التي كانت تتباكى وتنوح على الإنسانية وكرامة الإنسان!!!؟ ألم أقل لكم إنها أقلام مخادعة، ومراوغة، وكاذبة.. وإنها أبعد ما تكون عن الإنسانية.. فالكتاب الإنسانيون هم من تظل الإنسانية، شيئاً من إيقاع قلوبهم، وشيئاً من إيقاع أقلامهم.. أما أولئك فإنهم مستعدون لسحق أي صوت إنساني، إذا لم يكن منسجماً مع أهوائهم، ونزعاتهم المغشوشة... فيا لشقاء الإنسانية، ويا لبؤس تلك الأقلام التي تزايد على حرية الإنسان وكرامته...