وزير الرياضة:الروح العالية جلبت البطولة القارية    الملك وولي العهد يتلقيان دعوتين من أمير قطر لحضور القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية    إيرادات السعودية تسجل 263.6 مليار ريال في الربع الأول 2025    الاقتصاد السعودي يتحدى الظروف العالمية ويسجل نموًا في الإيرادات    أمير الجوف يرأس اجتماع لجنة الحج العليا بالمنطقة لعام 1446 ه    فيصل بن نواف يفتتح مدينة الحجاج والمعتمرين بالجوف    أمير تبوك يستقبل رئيس جمعية "أصدقاء" لاعبي كرة القدم ويقبل العضوية الفخرية    دوري يلو.. مواجهات حاسمة في صراع "البطاقة الثانية"    أمير تبوك يرعى غداً الثلاثاء حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    المانجو في جازان.. ثروة اقتصادية تنمو بالبحث والتطوير    منظمة التعاون الإسلامي تُدين الاعتداء على المرافق الحيوية والبنية التحتية في بورتسودان وكسلا بالسودان    القيادة تهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير لبلاده    مختص ل"الرياض": 85% من الوظائف المستقبلية ستكون قائمة على المهارات الاتصالية والتقنية    قوّات الاحتلال الإسرائيلي تنفّذ عمليات هدم    تجمع الأحساء الصحي ينظم ورشة عمل الرعاية التلطيفية    زوجان بنجلاديشيان .. رحلة من أمريكا إلى مكة المكرمة    هيئة فنون العمارة والتصميم تختتم المنتدى الأكاديمي للعمارة والتصميم بنسخته الثالثة    إطلاق مبادرة المترجم الصغير بجمعية الصم وضعاف السمع    مستشفى النعيرية العام يحتفي باليوم العالمي للصحة والسلامة المهنية    من جيزان إلى الهند.. كيف صاغ البحر هوية أبناء جيزان وفرسان؟    طبيبة من أصل عربي لمنصب الجراح العام في امريكا    أسعار النفط تنخفض بأكثر من دولارين للبرميل        عادة يومية ترفع معدل الوفاة بسرطان القولون    قبل أن أعرفك أفروديت    سوريا بين حرب أهلية ومشاريع تقسيم    سعد البريك    الداخلية: 100 ألف ريال غرامة لمن يؤوي حاملي تأشيرات الزيارة    انطلاق المعرض العائم اليوم في جدة.. 60 مليار ريال سوق «الفرنشايز» في السعودية    صناديق الاقتراع ورسائل الأمن.. مساران لترسيخ الشرعية والسيادة.. لبنان يطلق الانتخابات البلدية ويحكم قبضته على «صواريخ الجنوب»    العراق.. 10 أيام إضافية لتسجيل الكيانات الانتخابية    بحضور شخصيات من سلطنة عمان.. عبدالحميد خوجه يحتفي بضيوف ديوانيته    القيادة الملهمة.. سرّ التميّز وصناعة الأثر    خلف كل بساطة عمق عظيم    خطة لتوزيع المساعدات تُشرعن التجويع والحصار .. إسرائيل تدير الموت في غزة بغطاء إنساني زائف    أمير الشرقية يعزي المهندس أمين الناصر في وفاة والدته    التقى أمير المدينة والأهالي وأشاد بالتطور المتسارع للمنطقة.. وزير الداخلية يوجه بمضاعفة الجهود لراحة قاصدي المسجد النبوي    الأمير سعود بن جلوي يتفقد مركز ذهبان ويلتقي الأهالي    الرفيحي يحتفي بزواج عبدالعزيز    أسرة عصر وأرحامهم يستقبلون المعزين في مصطفى    شيجياكي هينوهارا.. كنز اليابان الحي ورائد الطب الإنساني    "الغذاء" تسجل دراسة لعلاج حموضة البروبيونيك الوراثي    «البرلماني العربي» يدعم القضية الفلسطينية ويرفض التهجير    الشاب خالد بن عايض بن عبدالله ال غرامه يحتفل بزواجه    بلدية محافظة عنيزة تعزز الرقابة الميدانية بأكثر من 26 ألف جولة    المملكة تختتم مشاركتها في معرض مسقط الدولي للكتاب 2025    تنفيذ 15 مشروعاً بيئياً في جدة بأكثر من 2.3 مليار ريال    المملكة تتقدم 28 مرتبة بتقرير مخزون البيانات المفتوحة    "الشؤون الإسلامية" تنفذ برامج التوعية لضيوف الرحمن    «حقوق الإنسان» تثمّن منجزات رؤية 2030    "المنافذ الجمركية" تسجل 3212 حالة ضبط    اختتام بطولة المنطقة الوسطى المفتوحة للملاكمة    إقبال كبير على معرض المملكة «جسور» في كوسوفو    صحف عالمية: الأهلي حقق لقبًا تاريخيًا.. وجماهيره صنعت الحدث    رئيس إندونيسيا يشيد بجهود المملكة في "مبادرة طريق مكة"    بيئة المملكة خضراء متطورة    أمير جازان يستقبل مدير عام فرع وزارة العدل بالمنطقة    تخريج 331 طالبًا وطالبة من جامعة الأمير مقرن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العنصر الفعَّال في الفكر الفلسفي
نشر في الرياض يوم 11 - 10 - 2009

أروع ما بدأ به الفكر الفلسفي في مرحلة تأسيس الثقافة الفلسفية في القرن السادس والخامس قبل الميلاد في اليونان، هو أنه أعلن منذ البدء بأنه ليس لديه من المعارف والحقائق ما يُطَمْئن به الناس، فهو لا ينقل العقول من مستوى الغبطة والاستسلام والوثوق في ثقافتهم الموروثة إلى مستوى مماثل من الغبطة والوثوق والاستسلام للفكر الجديد، وإنما هو منشغلٌ بتحريك العقول وإثارتها وحفزها إلى التساؤل والتحليل والمراجعة والإهابة بالناس بعدم الوثوق المطلق في أية معرفة بشرية، فمعارف البشر تظل ناقصة مهما تعددت وسائل التحقُّق، لقد لاحظ الفلاسفة بأن الناس يثقون ثقة مطلقة بالمعرفة التلقائية التي تشرَّبوها من بيئاتهم فهم في كل الثقافات مأسورون بالجهل المركّب لأنهم قد امتصوا أوهام الامتياز لكنهم لا يدركون ذلك فيعتقدون أن رؤوسهم تستضيء دوماً بالحقائق وبهذا فإن الفكر الفلسفي اليوناني هو الطفرة الثقافية الأولى في التاريخ الإنساني التي كشفت غيبوبة العقل البشري واستسلامه لثقافات متناقضة تدَّعي كلُّ منها بأنها وحدها تملك الحقائق المطلقة فأبرزت الفلسفة هذه الحقيقة البشرية المأساوية وأعلنت أن اعتقاد كل ثقافة بأنها وحدها الثقافة الصحيحة واعتقادها أن الثقافات الأخرى ثقافات عمياء هو العائق الأكبر للتطور الثقافي والحضاري وأنه الحاجز الأصعب الذي يمنع التفاهم والتقارب الإنساني، فهو المعضلة الإنسانية الكبرى وهو السجن الموصد على العقل البشري وأدركت الفلسفة أنَّ صدّم الناس بتعرية هذا الوهم الفظيع هو الكفيل بخلخلة هذا الوثوق الأعمى وتبديد هذه الغبطة الساذجة وإنقاذ الإنسانية من جهالاتها المركّبة وفتح سجونها الذهنية المؤبدة.
إن اعتقاد الناس بصحة الأوهام التي تملأ رؤوسهم وتحرك سلوكهم وتوجه اهتماماتهم هو الآفة الفظيعة المؤمنة التي رافقت الثقافات القديمة ومازالت هي الطابع المميز لها فَجَهْلُ الجهل يغتال العقل..
إن مزية الفيلسوف اليوناني الحقيقي أثناء فترة التأسيس الفلسفي أنه كان يعترف على ذاته بالجهل ويعلن أنه ليس لديه من العلم ما يقدِّمه للناس بديلاً عن أوهامهم العريقة وأن أقصى ما وصل إليه هو أنه قد اكتشف جهله وأنه قد ارتقى من مستوى الجهل المركَّب إلى مستوى الجهل البسيط كما كان يعلن سقراط فهو باكتشاف جهله لم يَعُدْ مغتبطا به وإنما صار يسعى للبحث والاستقصاء والتحقُّق ليجد المعرفة الممحَّصة التي لن تكتمل أبداً ولن توصد بل تبقى مفتوحة دوماً للمراجعة والتدارك والتصحيح وأن المهمة الأولى للفيلسوف وللإنسان عموماً هي المواجهة مع هذا الجهل المركَّب المغتَبَط به من مختلف الثقافات، أي أنه رغم تباين الثقافات فإن الإنسان بنشأته في أية بيئة يمتص ثقافتها ويتبرمج بها مهما كانت فيتوهَّم أنها الحق المطلق والكمال التام فلا يُخضعها للشك ولا للفحص وإنما تصبح هي العقل والمعيار الذي يحكم به على كل الأمور ويقيِّم به جميع المواقف. إن أي إنسان تجاوز السنوات الست الأولى من عمره يكون قد تبرمج بما يحكم به على الأمور فهو لا ينظر ويَحْكُم ويقيِّم وهو خالي الذهن أو في وضع محايد وإنما ينظر وهو مملوء العقل بالأحكام المسبقة التي لا تسمح للحقائق بأن تنفذ إلى ذهنه أو تؤثّر فيه...
إن المزية الأساسية الكبرى التي انفرد بها العقل الفلسفي اليوناني وجعلتْه يُمثَل نقلة نوعية في الثقافة الإنسانية هي أنه كان يؤكد منذ البدء أنه يفتقر افتقاراً كلياً إلى المعرفة الممحَّصة وأنه يجهل كل شيء باسثناء أنه يعرف جَهْلَه وأن معارفه التي يعيش فيها أو يحلم بتحصيلها ليست سوى معارف تخمينية هي أبعد ما تكون عن أن تستحق الوثوق المطلق وأن أقصى ما يسعى إليه هو الوصول إلى معرفة ظنيّة تقوم على الترجيح وأن سبيله إلى هذه المعرفة الناقصة المؤقتة هو الملاحظة والتحري والتأمل والمقارنة ثم أضيف في العصر الحديث التجريب والاختبار من أجل التحقُّق إنها محاولة تنشد المقاربة ولا تدعي اليقين ولا الاكتمال ولا الاكتفاء وإنما تعلن أنها لا تطمع بأكثر من معارف تقريبية احتمالية ترجيحية وبسبب طبيعتها الظنية الاحتمالية فإنها تبقى دوماً مفتوحة للمراجعة الدائمة والفحص المستمر ومعرَّضة للتعديل حسب ما يتوفر من وقائع تؤيِّد أو تُفَنِّد...
لقد كانت الفلسفة منذ البدء دعوة صريحة وملحة لتحرير الإنسان من الوثوق المطلق ومن الأحكام المسبقة وتأكيداً بأن على كل إنسان بأن يراجع ما تشبَّع به تلقائياً في الطفولة وما بعدها مما لم يُخضعه للفحص والتحليل. إن الفلسفة إهابة بالإنسان بأن يتعلَّم ممن يختلفون عنه وممن يعارضونه وأن يواصل التعلم طوال عمره، وأن يظل مُدركاً لقصور معرفته مهما اجتهد فالفلسفة إعلانٌ عن شوق الإنسان العميق والمتلِّهف والدائم بأن يعرف كل شيء لكنه يدرك أن المسافة بينه وبين المعرفة الموثوقة مسافة طويلة لكن البحث الدائم عن الحقيقة والإخلاص لها والتمسك بها والشوق إليها والاعتماد عليها في الآراء والمواقف والأعمال والأحكام هي المعايير التي تقاس بها إنسانية الإنسان، فإنسانية الإنسان لا تتحقق إلا بمقدار ما يعرف وبمقدار ما يلتزم بهذه المعرفة في آرائه ومواقفه وسلوكه فيكون عادلاً وموضوعياً بأقصى ما تسمح به الطبيعة البشرية الحرونة والمنحازة والتبريرية...
إن الإنسان المدرَّب والملتزم فلسفياً هو في نظر الفلسفة اليونانية وفي نظر الذين ورثوها يكون دائماً على استعداد تام بأن يبقى مفتوح الذهن للتدارك والتصحيح والاكتشاف إنه يعلم أنه يسير متعثراً وهو يحاول الاقتراب من الحقيقة وأنه لا مطمع له بامتلاكها فلا هو ولا غيره من البشر يملك وحده الحقيقة المطلقة، فمن حق الجميع أن يفكروا بصوت مسموع وأن يجهروا بآرائهم ويعلنوا مواقفهم وبذلك تأسَّسَتْ لأول مرة في التاريخ الإنساني ثقافة إنسانية واقعية تنفرد بأنها لا تدعي المعرفة المطلقة ولا تزعم أنها تملك الحقيقة ولا أنها تُقَدِّم الحل الشافي أو المعارف الكافية ولكنها تعلن وتعترف بمنتهى التأكيد والوضوح والتواضع بالحدود الضيقة للقدرة البشرية على المعرفة وبكثرة الحُجُب التي تعوق الوصول إلى الحقيقة كما تعلن بأنها تجهل وأنها لا تُقدِّم معارف نهائية فلا تنقل الاتْباع من وثوق إلى وثوق بل تستنفرهم للاهتمام الشديد والبحث الجاد والاستقصاء المستمر وتعلن أنها حريصة بأن تتعلَّم من المخالفين وبذلك فهي ثقافة مفتوحة على كل الآفاق وقابلة للنمو الدائم وتعلن أولوية الجهل وتؤكد صعوبة التحقُّق...
وهكذا كان انبثاق الفكر الفلسفي في اليونان هو التأسيس المبكر لحضارة نامية ومزدهرة وقابلة للمزيد من النمو والازدهار إلى مالا نهاية لكن الثقافة الفلسفية اليونانية في حيِّزها المكاني الضيِّق وأتباعها القليلين كانت تعيش وسط ثقافات غامرة في اتساع سلطتها وواثقة من ذاتها وموغلة في ادعاداتها ومغلقة على أوهامها وشديدة التذويب لأتباعها فكانت الفلسفة كشجرة وارفة الظلال وناصعة الإخضرار ويانعة الثمار وسط صحراء واسعة قاحلة وقاتلة إنها كالشيء في غير موضعه فاندلعت عليها العواصف الحارقة والأعاصير الهوجاء من كل اتجاه: من داخل اليونان وخارجه فدخلتْ أثينا في حرب طويلة مع جارتها اليونانية (سبارطة) ذات الثقافة العسكرية ثم سيطر المقدونيون على اليونان كلها وتشبَّع الاسكندر المقدوني بالفكر الفلسفي على يد أستاذه أرسطو فحاول نشر الثقافة اليونانية في العالم لكنه مات مبكراً وهو في الثانية والثلاثين من العمر فاقتسم قادته البلاد المفتوحة وحكموها بالأسلوب الاستبدادي الشائع في آسيا وإفريقيا ثم علا شأن روما فاستولت على اليونان ونَشَرَتْ الثقافة اليونانية والرومانية في أوروبا فصارت مهيأة للتنوُّر والتطور ولكن الامبراطورية الرومانية ذاتها تأثَّرت بالشرق منذ مطلع القرن الرابع الميلادي فتحولت إلى امبراطورية أيديولوجية ذات ثقافة مغلقة فتدهورت ثقافياً ثم انقسمت الامبراطورية ذاتها بين امبراطورية شرقية في بيزنطة وغربية في روما ثم سقطت روما في قبضة الغزاة المهاجمين المتوحشين ثم تتابعت أحداثٌ أدَّت إلى أن يرين السُّبات على أوروبا خلال القرون التي عُرفتْ باسم العصور الوسطى ثم عادت بعض المدن الإيطالية إلى إحياء التراث اليوناني فتحققت نهضة قوية وسريعة فيما عُرف باسم عصر النهضة أو عصر الولادة الجديدة ثم خَبَتْ النهضة في إيطاليا بعد أن انتقل تأثيرها لأقطار أوروبية أخرى...
ثم حصل الانشقاق البيروتستانتي الذي قاده مارتن لوثر ونشط المفكرون الإنسانيون من أمثال إيراسموس وامتد تأثيرهم إلى كل مكان في أوروبا وخصوصاً في هولندا وأعلن كوبر نيكوس أن الأرض ليست مركز الكون وإنما هي مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس فأحدث بهذا الكشف ثورة فكرية زلزلت المسلَّمات ودفعت أوروبا إلى حالة من الغليان الفكري ثم ظَهَر برونو وفرانسيس بيكون وديكارت وغيرهم من المفكرين الرواد ناقدين للثقافة السائدة وداعين إلى إعادة تأسيس وتكوين الثقافة الأوروبية على أُسس فلسفية وتجاوبت أوروبا كلها لهذه الثورات الفكرية فانتقلت من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التعصب إلى التسامح، ومن الجمود إلى النشاط، ومن الحجر على العقول إلى استنفار أقصى طاقات الفكر فتنوعت الاهتمامات وتأججت الطموحات، لقد انتشلَتْها ثورة الأفكار فعادت بتدفق عارم إلى الفكر الفلسفي بعد انقطاع دام قروناً، وبهذه العودة تحققت نهضة الفكر فنهضة الفكر شرطٌ أوَّلي لنهضة العلم ومقدمةٌ أساسية لتقدم المجتمع، فالنهضة الفكرية التي شهدتها أوروبا عند نهاية العصور الوسطى جعلتها متهيئة لإنتاج العلم واستقباله وتطبيقه ومواصلة التقدم على كل الجبهات، وكان اختراع المطبعة من الأحداث المفصلية في تاريخ الحضارة فقد أدى هذا الاختراع العظيم إلى تيسير الكتب للناس وانتشرت المعرفة انتشاراً لا عهد للعالم به فظهر رواد العلم من أمثال فيساليوس ونويل وهالي وكبلر وهارفي ولينفهوك وبريستلي وهوك وجاليلو ونيوتن وظهر مغامرون من أمثال كولومبس وماجلان وأمريكو واكتشفوا العالم الجديد وعمَّ أوروبا نشاطٌ محموم وتطلعات واسعة واهتماماتٌ متوقدة وتنوَّعتْ مجالات العمل والإبداع وانفتحت الآمال وبرز نشاط المخترعين من أمثال: جيمس وات ونيوكامن ودنيس باين وتوماس سافري وجون كاي وجيمس هارجريفز وريتشارد آركرايت ثم فراداري وأديسون والأخوان رايت وغيرهم من المخترعين الذين قدَّموا للإنسانية وسائل جديدة لأداء المهام والأعمال وتغيَّرتْ الحياة بهذه المخترعات تغيرات نوعية متلاحقة ودخلت أوروبا ومعها العالم كله في مرحلة جديدة لم يعهدها الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض..
وفوجئت كلُّ الأمم بهذه التغيُّرات النوعية التي حقَّقَتْها أوروبا وكانت اليابان هي الأسرع استجابة والأكثر واقعية فاعترفت أن خلف التغيُّر الأوروبي الابهر عوامل جديدة غير مألوفة لن يتحقق التقدم المنشود إلا بالتعرف عليها والأخذ بها فأعلنت اليابان الانفتاح الكامل والاستنفار التام وحرصت بأن تتعرف على عوامل التقدم من داخل المجتمعات الأوروبية المتقدمة فتعرَّفَتْ على هذه العوامل وحققت التقدم وصارت المنافس الأكبر والأنجح للغرب فأصبحت صاحبة الاقتصاد الثاني في الضخامة والمتانة وانتظام النمو وباتت تنافس الولايات المتحدة الأمريكية سابقة بذلك منبع الحضارة المعاصرة بلدان غرب أوروبا: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهكذا إذا انفتح أي مجتمع على مصادر الإزدهار برغبة صادقة وعمل جاد ومن غير استسلام لقيود الماضي وعُقده ومعوقاته فإنه يحقق الازدهار مهما افتقرت أرضه إلى الموارد الطبيعية، فالطاقة الإنسانية المدججة بالمعارف والمهارات أصبحت هي الثروة الإنسانية المتجددة، فاليابان فقيرة بأرضها لكنها غنية بفاعلية شعبها: بدقة أدائه وغزارة إنتاجه وشدة انضباطه ونصاعة مواطنته وعمق إخلاصه وصرامة أخلاقه..
لقد بات واضحاً أن تحقيق التقدم في أي مجتمع مرتهنٌ بمقدار رغبته الصادقة في التعلُّم من الآخرين والاستفادة من تجاربهم وانفتاحه عليهم وإزالة الحواجز النفسية والذهنية والوجدانية التي تفصله عنهم فباستعراض أوضاع المجتمعات التي حققت النمو وبلغت الازدهار وأوضاع المجتمعات التي مازالت تدور في خنادق التخلف يتبين بوضوح شديد أن الاعتراف بالخلل الثقافي والصدق في إصلاحه هو مفتاح النجاح..
لقد توهَّمتْ المجتمعات المتخلفةُ أن سر التقدم يكمن في المعلومات والتقنيات فاستوردتْ التقنيات وعمَّمَتْ التعليم ونشرتْ المدارس وأكثرتْ من الجامعات، فامتلأتْ الأوطان بالمتعلمين ولكنها لم تزدد إلا تخلُّفاً لأن التعليم لم يُسبق بنهضة فكرية تفتح الأقفال الثقافية التي تتوارثها الأجيال وسوف تمضي السنون من دون تحقيق أية نتائج إيجابية ما لم يحصل التدارك بالتركيز أولاً على تحقيق نهضة فكرية تهيئ الأذهان والعواطف لاستقبال الأفكار والمعارف والمهارات، فالعلوم والتقنيات وكل تجليات الازدهار ما هي إلا نتائج لثورة الأفكار...
إن العلم إصلاح التفكير وليس إعطاء معلومات وهو إحلال تصورات صحيحة ومعارف ممحَّصة محل تصورات ومعارف خاطئة أما إضافة معلومات ممحَّصة إلى ذهن متشبع بثقافة المشافهة غير الممحَّصة فلا يفيد علماً لأن هذه الإضافة تشبه إضافة كأس من الماء الصافي العذب إلى بركة مليئة بالماء المالح العكر، بل إن الثقافة الأسبق ترفض وتنبذ المعارف الصحيحة وبسبب ذلك فشل التعليم في العالم الثالث، فلقد جرى تعميم التعليم وامتلأت البلدان المتخلفة بالمدارس والجامعات والمتعلمين ولكنها لم تزدد إلا تخلُّفاً لأن العقل يحتله الأسبق إليه...
إن أوروبا لم تنفعل وتتحرك وتجيش فيها روح الانبعاث والتقدم بسبب أنها تلَّقتْ معلومات جديدة وأضافتْها إلى معلومات سابقة، وإنما حصل هذا الجيشان لأنها أدركتْ أنها كانت غارقة في مسلَّمات غير ممحَّصة وغير صحيحة فأفاقت من سباتها واستجابت للأفكار المثيرة فأشد الكشوف العلمية تأثيراً في بداية العصر الأوروبي الحديث هو كشفُ كوبر نيكوس وهو كشفٌ فلكي لا علاقة له بالاقتصاد ولا بالسياسة ولا بالإدارة ولا بأي عمل تنموي مباشر، ولكنَّه مثَّل ثورة فكرية لأنه هزَّ المسلَّمات وأنتج لأوروبا عقلاً جديداً ووجَّه اهتمامات هذا العقل وجهات جديدة فالتأثير الكبير ليس للمعلومات ذاتها وإنما لدلالاتها الفلسفية والثقافية ولمستوى الاستجابة العامة لهذه الدلالة الكبرى الحاسمة فأهمية الكشوف تكون بمقدار ما تُقَوِّض من مسلَّمات وما تثيره من تساؤلات وما تقدمه من أفكار وما تتمخض عنه من استنفار للعقل وما تفتحه من آفاق للفكر والفعل...
إن العلم ليس إضافة معلومات إلى معارف سابقة فالعقل البشري قبل ظهور العلم لم يكن في حالة انتظار وإنما كانت له قناعات راسخة وكان مملوءاً بالثقة بمعارفه وتصوراته فمهمة العلم ليست الإضافة فقط بل الأكثر أهمية هو إزالة الأوهام المستقرة في العقل وإحلال حقائق محلها وخَلْق تساؤلات حول محتوى الأذهان ومسلَّمات الثقافة السائدة كما حصل باكتشافات كوبر نيكوس فقد كان الناس يعتقدون أن الأرض هي مركز الكون وكان هذا الاعتقاد راسخاً ومتوارثاً عشرات القرون فجاء كوبر نيكوس وقوَّض هذا الاعتقاد الخاطئ وأحلَّ محله معلومات علمية صحيحة وممحَّصة وبهذا أدرك الناس أن تصوراتهم التلقائية في كل المجالات لم تتعرَّض للفحص والتحليل وأنها ليست مبنية على حقائق مختبرة وأن الكثير منها يتعارض مع الحقائق ففتحوا أذهانهم لاستقبال الكشوف وإجراء التصحيحات فالمعلومات والحقائق في أي عصر وفي أي مصر لا تأتي إلى عقل فارغ وإنما تجيء إلى بنية ذهنية متشكلة ومنظومة من المعايير المستقرة المترابطة التي ينساب منها التفكير والسلوك تلقائياً...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.