كتابة عبارات الإهداء على الكتب ليست فكرة جديدة تماماً، فبعض الناس حينما يهدي كتاباً من تأليفه أو من اختياره فإنه يكتب عبارة إهداء في الصفحة الأولى من الكتاب. وارتبطت عبارة الإهداء هذه في ثقافتنا بالعملية ذاتها، أي بالقيام بإهداء الكتاب للشخص، ويصبح الكتاب فعلا "هدية" مجانية من المؤلف أو من غيره إلى المهدى إليه، الذي يعتبر –وفق سياق الإهداء- شخصاً له تقدير خاص عند صاحب الهدية. ولم تخرج فكرة إهداء الكتاب عن أي هدية أخرى من حيث الدلالة، ذلك أن الهدية مرتبطة بالعطاء الذي يقدّمه الشخص عن طيب نفس إلى شخص آخر بهدف التواصل الإيجابي معه. وفي ثقافتنا الشعبية، تخضع الهدية لطقوس وقيم واعتبارات ثقافية مهمة، من أهمها أن تكون الهدية مجزية، وأن تكون جديدة أو مهمة، ويفضل أن تكون "طريفة" بمعنى أنها نادرة كأن تهدي فاكهة في أول الموسم قبل نزولها للسوق أو تهدي طعاماً أو لباساً لايوجد مثله في البيئة..إلخ، وأن تُقدّم الهدية بحب ومودة ويصحبها عبارات التواضع التي لاتشعر المهدى إليه بالمنّة أو الفضل عليه. أما طريقة استلام الهدية والتعرف عليها ثم الرد عليها فهي مختلفة من بيئة إلى أخرى ولكن يغلب على ثقافتنا السعودية عدم فتح الهدية أو تفحصها أمام المهدي تجنباً للحرج بعكس الثقافة الأمريكية التي تجد أن فتحها والإعلان عنها يعني الفرح بها وتقدير صاحبها؛ وتتضمن الهدية فكرة الرد عليها بهدية أخرى مادية أو معنوية. وهذه الطريقة المتبعة في تقديم الهدية بشكل عام تنطبق على إهداء الكتاب، وربما يزيد الكتاب عليها في احتوائه على عبارة تشير إلى الإهداء، وفي الغالب فإن هذه العبارة تتضمن ثلاثة عناصر: اسم الشخص الذي تُقدّم له هذه الهدية، وعبارة الإهداء التي يمكن أن تختصر في حرف "إلى"، وقد تطول بإضافة كلمات تحية، والعنصر الثالث هو اسم مقدّم الهدية. وربما أمهرت بتوقيع وربما ذكر التاريخ. ولن نتطرق إلى مضمون عبارات الإهداء وخاصة حينما ظهر أشخاص يكتبون مضامين أيديولوجية (سياسية، دينية، تعليمية) في الإهداء. وقد استجدّت على مجتمعنا طريقة جديدة في إهداء الكتب تبدو مختلفة عن الطريقة السابقة، فمنذ تولي وزارة الثقافة والإعلام تنظيم معرض الكتاب قبل سنتين صار هناك ترتيب جديد لإهداء المؤلفين كتبهم عرفت بتوقيع الكتب، وصارت هناك منصّات مخصصة لذلك، وثمة إعلان عن موعد التوقيع. وأهم من ذلك أن الإهداء يقتصر على مايقوم به المؤلف من كتابة العبارة والتوقيع. ورغم أن العملية هذه سميت بالتوقيع على الكتاب، وليست إهداء الكتاب لأن الشخص يشتري الكتاب من ماله ثم يذهب إلى المؤلف لكي يوقع عليه باسمه؛ إلا أنها لاتخلو من مضمون الإهداء في دلالته العامة حتى وإن كان المؤلف لن ينتظر الرد على هذا الإهداء. ومع أن هذه الطريقة معروفة في الغرب منذ سنوات طويلة إلا أنها مستحدثة على مجتمعنا وربما يصعب على البعض تقبلها أو على الأقل تلافي الشعور بالحرج من القيام بها. ومن خلال مراقبة ما يحصل من تواقيع خلال السنوات السابقة، يلاحظ تقبّل الجيل الجديد للفكرة دون شعور بالحرج، وبالتأكيد ليس كل الجيل الجديد، فأنا محسوب على الجيل الجديد ولكني أجد حرجاً في التوقيع على كتابي لشخص اشتراه، وأجد أني لا أستطيع فعل ذلك لسبب بسيط هو أن هذا التصرف مرتبط بقيم أساسية كوّنتها الثقافة وليس من السهولة اقتلاعها. وأتذكر حينما كان الناس يتجمهرون صباح يوم الأحد في خريف 2004 بجوار مكتبة "بارزآند نوبل" في أمريكا ليحصلوا على توقيع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون على كتابه "حياتي"، كنت أسأل أحدهم: وماذا يعني لك توقيعه على الكتاب؟ فرد ببساطة: لأنه شخص مهم وربما بعته بعد سنوات بملايين! ومن المؤكد أن إجابة ذلك الشخص لا يمكن تعميمها، فهناك من لديهم شغف بالحصول على تواقيع المشاهير والتصوير معهم واقتناء صورهم ومتابعة أخبارهم، وهناك من يهمه التوثيق التاريخي للحادثة أو إنعاش الذاكرة بمواقف مختلفة، أضف إلى ذلك أن الاستقلال المالي من الأمور التي اعتادها الشعب الأمريكي، فإذا كنت لا أستطيع تناول الطعام أمام شخص دون دعوته لمشاركتي، فإن بعض الأمريكيين يفاجئك وأنت تتحدث معه على طاولة بأن يفتح حقيبته ويستخرج طعامه ويبدأ يمضغ وهو يتكلم معك دون أي شعور بالحرج. ويأتي التوقيع على الكتب دون إهدائها من هذا الباب الذي ألفته الثقافة الغربية. وعند مقارنة هذا الوضع بواقع الحال عندنا، فإنه يخطر في الذهن تساؤل آخر يركز على الحاصلين على التوقيع: فهل يبحث الناس عن توقيع المشاهير إذا علمنا أن أغلبية الموقعين على مؤلفاتهم غير مشهورين؟ أم أن لديهم محفزات نفسية مختلفة فيقوم التوقيع بدفعهم للقراءة؟ أم أنهم يريدون تقديم دعم نفسي للمؤلف لكي يشعر أن هناك من اقتنى كتابه؟ أم أن التوقيع ذاته جزء من برستيج شراء الكتاب الذي يستخدم للزينة في أرفف دواليب صالة المنزل والمجلس؟ وربما تكون هناك مسوغات خاصة لها رواج بين الناس تدعم فكرة التوقيع على الكتب والحرص على اقتنائها، وهو ما يمكن اعتباره حدثاً ثقافياً جديداً مؤثراً في ثقافتنا.