يحمل وادي الناصف التاريخي اسم (وادي الصعاليك) بقرية الحازم التابعة لمركز "أبيده" بمحافظة القرى ذلك الوادي الشهير لدى المؤرخين، والذي شهد مغامرات الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي. في هذا الوادي تعيش أسرة في معزل عن العالم وقد أجبرتها قسوة الظروف وقلة ذات اليد إلى التصعلك في نفس المكان التاريخي مع فارق الزمن والظروف المعيشية والاجتماعية والترف الذي ينعم به العالم . فما أن وضعنا أقدامنا بجوار منزل المسن سعد بن محمد آل مبروك ( 85عاماً) حتى استقبلنا بالترحيب هو وأبناؤه، ولم يجدوا لنا ما يتوافق وترحيبهم الحار بنا، حيث لا تمر ولا قهوة ولا قدوع، سوى أفواه تترقب لقلب رحيم ويد سخية تكفيها مؤنة يوم واحد . ابنه عبدالله بن سعد آل مبروك عمره ( 38عاماً) متزوج وله ستة أطفال كان يعمل في أحد القطاعات العسكرية وأمضى فيها واحد وعشرين عاماً ثم تفاجأت أسرته في الطائف بغيابه عنهم لمدة ستة أعوام دون أن تعلم إلى أي أرض توجه وهو لا يدري أهي على قيد الحياة أم أن زوجته وأطفاله في عداد الأموات حتى الآن!!. ظروف قاسية تحدث والد عبدالله ل"الرياض" والحزن والألم يعصرانه ودموعه تنهمر قائلاً: إن الابن عبدالله كان يترك أسرته وأطفاله بين فترة وأخرى لأنه كان يحاول مساعدتنا في الباحة، ولكنه أصيب بمرض نفسي بسبب أوضاعنا فنحن من أهالي الباحة إلا أننا لا نملك مأوى أو مسكنا ولم يوفق ابننا عبدالله وهو الموظف الوحيد في العائلة في استكمال بناء منزلنا وتكالبت عليه الديون حتى ساءت أحواله فقرر التخلي عن وظيفته وترك زوجته وأطفاله في محافظة الطائف ليعيشوا كيفما شاء الله وقدر لهم أن يعيشوا، ثم أنه عاد إلى وادي أبيده بمنطقة الباحة حيث أسكن أنا ووالدته وإخوته الثمانية في عشة كما تشاهد وهي مكونة من الشبك المسقوف بالخرق والبطاطين والزنك، وبعد تدهور حالته الصحية قمنا بإدخاله إلى مستشفى الأمراض النفسية بمحافظة بلجرشي ومكث فيها بضعة أسابيع للعلاج، وبعد خروجه من المستشفى قرر أن يعيش في أحد الحصون الأثرية الخربة والتي تحيطها المقابر من جميع الجهات واستمر ست سنوات يتنقل ما بين السكن في الحصن والسقيفة الصغيرة التي اقامها على أحد القبور بعد ان ازاح عظام الميت وفرشه بفرشة بالية من الداخل، وأقام عليها غرفة من الأحجار وسكن داخل القبر وقد نصب عليه خرقة بيضاء وكتب عليها الله أكبر بواسطة الحياكة. قصص وعجائب وبعد أن توجهت عدسة "الرياض" إلى مقر سكن هذه الأسرة وفي أثناء طريق وعر المسالك كانت المفاجأة داخل إحدى القلاع الأثرية المهجورة والتي تحيطها المقابر من جميع الجهات حيث ينام ويقيم ابنهم عبدالله ويشارك الثعابين والعقارب والفئران ومردة الجن، وعند وصولنا عن طريق والده الذي كان يروي لنا قصصاً وعجائب عن سر هذا الحصن الذي يقول : إن ابنه قام ببناء مسجد بالأحجار باتجاه الحصن وعكس اتجاه القبلة، فهو يصلي على الحصن ونحن نصلي على القبلة، وبعد أن سألته عن السبب قال : إن ابني يردد دائماً أن هذه الأراضي مقدسة. وذكر انه تسبب في إرهاقنا بكثرة طلباته التي لم نتمكن من توفيرها لأننا لا نملكها فهو يطالبنا بإحضار بخور ليقوم بتبخير الحصن من الداخل والخارج، فهو يعتني به ويقوم بتنظيفه باستمرار ويرى أن هذه المقابر مقدسة وأنها للأولياء والصالحين علماً أن معظمها على غير اتجاه القبلة وهي معروفة على أنها تعود لعصر ما قبل الإسلام . وبعد ان وصلنا إلى الباب الموصد لهذا الحصن المهجور تم قرع الباب فخرج لنا الرجل مجرداً من الملابس وتم تزويده بثوب ليستر عورته بعد أن منعنا والده من تصويره في هيئته، فقابلنا ابنه بالزجر وأمرنا بسرعة خلع الأحذية لكي لا ندنس مقدساته كما يعتقد، وبعد أن قمنا بخلع الأحذية لمجاراته واستعطافه وتهيئته لقبولنا، ثم سلمنا عليه فتجاوب معنا بسهولة حيث امتدحنا الحصن وهذا الأمر يجعله يتقبل الزيارة والأسئلة. وقد كانت المفاجأة أكبر مما كنا نتصور حيث ولجنا إلى داخل الحصن المظلم وكان على أحد رفوفه مصحف، وارضية الحصن مفروشة من الداخل برداء قديم متسخ وممزق. الثعابين والعقارب وبدأ عبدالله يشرح لنا أن هذا المصحف يقرأ فيه ليلاً ونهاراً كما يقول، إلا أنه يعيش في ظلام دامس لا يرى فيه جزءاً من جسده. ويقول إنه ترك العمل بسبب الظروف وبسؤالنا عن أسرته التي تعيش في الطائف ذكر أنه لا يعلم عنهم شيئاً ولا يدري إن كانوا على قيد الحياة لأنه تركهم منذ ست سنوات في الطائف كما ذكر !! وذكر أنه لم يأخذ مستحقاته وراتبه مقطوع بسبب فصله من الوظيفة لغيابه. وعن الحصن يقول إن هذا الحصن هو قبلة الناس وهو ليس ملكاً لأحد، ولي فيه أصدقاء من الثعابين والعقارب وأعز أصدقائي هو "عركوش" !! وبسؤالنا له من يكون عركوش؟؟ قال: إنه فأر وهو من أعز أصدقائي وسوف أقوم بذبحه وليمة لكم إذا أتيتم بزوجتي وأطفالي من الطائف!! وفي الواقع أن الظروف النفسية لهذا الرجل هو ووالده وبقية الأسرة مؤلمة فهم لا يجدون قوت يومهم وليس لديهم مسكناً وهذا ما يرددانه بين الفينة والأخرى . التوقيت الشمسي وبعد استمرار الحوار مع عبدالله تم الكشف عن عامل من الجنسية الهندية يعمل في إحدى المزارع وهو يقوم بجلب بعض بقايا أطعمة العمال لهذا الرجل داخل الحصن كما أنه يقوم هو والعمال بإعطاء الأسرة ما يتبقى لديهم من أطعمة، وبينما كنا كذلك مستمرين في كشف ما يكتنفه الحصن أشار عبدالله إلى فتحة يتسلل منها خيط رفيع من ضوء الشمس فقال: إن هذه الإشارة هي التوقيت الشمسي ولكن يجب أن يدرك الناس أنه يجب عليهم تغيير مواقيتهم على كوكب عطارد بدلاً من التوقيت الشمسي لأنه أسرع!!. وفي دهشة منا عند سماعنا لهذه المعلومة التي جعلتنا نتردد لمعرفة المزيد من الأسرار سألنا عبدالله عن مؤهله الدراسي فقال أنا تعلمت من أخواني الجن في هذا الحصن وهم مسلمون. وقال والده : إنه يأتي ابنه عبدالله منادياً كما يقول فيخرج من المنزل مهرولاً إلى الحصن المهجور في وسط الليل فيبيت في الحصن ويستمر أسبوعاً كاملاً، ولا نشاهده إلا يوم الجمعة حيث يتجرد من ملابسه تماماً ويخرج بعورته مكشوفة ويتعرى أمام الناس ويبقى كذلك عند باب المسجد حتى نأتي ونستر عورته ونعود به إلى المنزل، إلا انه لا يؤذي أحداً رغم تخوف الناس منه. بناء غرفة وبعد أن قمنا بمنعه بالقوة من البقاء في الحصن الآيل للسقوط قام ببناء غرفة في مجرى السيول بطول متر ونصف وعرض متر واحد مسقوفة بالأشجار والخرق البالية، فهو يسكن فيها أحياناً ولكن أغلب اوقاته في الحصن، إلا أنه قام بتسوية مساحة بسيطة أمام هذه الغرفة وجعل لها محراباً مبنياً بالأحجار وموجهاً باتجاه الحصن للتعبد فيها على غير القبلة. مناشدة وناشد والده المسن سعد آل مبروك أهل الخير في مساعدتهم بعد أن وصلتهم الكهرباء وقال إنه استمر في مراجعة شركة الكهرباء أكثر من خمس سنوات ولم تصله إلا قبل يومين، مضيفاً اننا لا نمتلك المصابيح الكهربائية وأدوات التركيب الأخرى رغم وصول التيار إلى العشة وسنسعد عند تركيب أول مصباح يضيء هذا المكان بمشيئة الله. القبور جوار المسكن وقال أبو عبدالله أنه قبل ست سنوات وقبل أن يتعرض ابنهم عبدالله للمرض النفسي انهم اكتشفوا العديد من القبور في مدخل المنزل وبجوار مسكنهم وداخل المنزل، وقمنا بوضع شبك لاحاطة تلك المدافن لعدم ايذاء الاموات ولكن تلك القبور تعترض امام طريقنا واصبحنا نخالط أهلها حتى أثرت علينا جميعاً ومنها قبور في المدخل الرئيسي للمنزل الذي لم ننجز منه سوى بناء الحائط بطوب فقط وذلك بمساعدة ابننا قبل مرضه ومساعدة فاعلي خير كتب الله لهم الاجر والثواب وجعل ما قدموه في ميزان حسناتهم إلا اننا لا نستطيع اكماله لعدم القدرة ولانه على مقابر! وأشار المواطن سعد أن ابنه عبدالله كان الأمل الوحيد في هذه الحياة القاسية، وأن بقية أبنائه بلا وظائف وجميعهم عاطلون وأحدهم معاق لإصابته في حادث بإحدى ورش السيارات حرمه من الحركة والمشي على قدميه .أما البقية فلم يكملوا الدراسة وفضلوا البقاء في المنزل بسبب ظروفهم المعيشية.