يواجه المضمون التعليمي للكثير من البلدان النامية، العديد من التحديات في ظل التطورات العلمية والتقنية الهائلة. إذ أن التطورات الهائلة والمتصاعدة، والتي حدثت في مختلف المجالات، تزيد من تحديات الراهن وضغوط المستقبل وآفاقه. فالتعليم وهو على أعتاب المرحلة الجديدة، يواجه راهنا تكتنفه التحديات والآمال والآلام من كل الاتجاهات. والرؤية السطحية لدور التعليم في عملية النهوض والتنمية، تحجب عنا الرؤية الحقيقية للمستقبل ومتطلباته إن على الصعيد الخاص أو العام. فالتغيرات الجذرية والمتسارعة، والتي تجري على أكثر من صعيد ومستوى، تترك بصماتها على مختلف جوانب حركة الشعوب والأمم. بمعنى أن خارطة العالم السياسية والحضارية والاقتصادية، تتغير في إطار عملية صياغة النظام الدولي الجديد. وإن بقاء المضمون التعليمي والأساليب التربوية على حالها، يعني عدم قدرتنا على فهم هذه التغييرات الجذرية وآثارها في مسيرتنا وواقعنا، كما أنه يعني أننا نتأخر عن الركب العالمي في مختلف المجالات. وذلك لأن هذه التغيرات، لها دور في تطوير العملية التعليمية في الكثير من الدول والبلدان، التي تتطلع إلى مواكبة التطورات العالمية وحجز موقع قدم متقدم في خارطة العالم. وكما يبدو من مختلف المعطيات، أن التنافس والصراع بين الأمم والشعوب في الألفية الثالثة، سيكون محوره العلم والمعلوماتية. وأن الأمة التي لا تطور من تعليمها، ولا تحدث نقلة نوعية في برامجها التربوية، ستكون في مؤخرة الركب الحضاري. من هنا تنبع ضرورة إعادة هيكلة التعليم وتطويره وتحديثه، بما ينسجم وهذه التغيرات المذهلة التي تجري في العالم. لأن جمود العملية التعليمية وبقاءها على حالها، وعدم استيعاب تطورات العصر في المناهج التعليمية، يزيد من غربتنا عن العصر ومتطلباته. والنظريات التربوية الحديثة، أخضعت حتى مفهوم المدرسة كمكان ثابت إلى المساءلة والنقد، وبحثت هذه النظريات عن أساليب تعليمية جديدة تتناغم ومتطلبات هذه القفزة النوعية التي تجري على مختلف الصعد في أرجاء العالم. وبإمكاننا القول إن المشهد العلمي العالمي، والذي تتكون خلاياه القاعدية من الجامعات والمعاهد المتخصصة ومراكز البحث والدراسة والتنافس القادم بين الأمم سيكون متمحوراً حول هذه المسائل، بحيث أن تطوير المدرسة، وتحديات مناهج التعليم، سيكونان هما نواة التقدم والتطور. وهكذا ستواجه بلداننا تحدياً جديداً، يتطلب منا العمل الجاد على تحديث مؤسساتنا التربوية والتعليمية.. وان البلد الذي لا يطور واقعه التربوي التعليمي، يعني على المستوى العملي أنه جعل غيره يتحكم في مصيره ويصيغ مستقبله. وعلى هدى هذه الحقيقة، ثمة أمور ينبغي التأكيد عليها وهي : الفكر الإستراتيجي التربوي : لا ريب أن تحديث الوسائل التربوية، وتطوير المناهج التعليمية، بحاجة إلى فكر إستراتيجي تربوي، يأخذ على عاتقه استيعاب التطورات التربوية الحديثة واستنهاض الامكانات الكامنة في الجسم التربوي الوطني حتى تتكامل الجهود وتتضافر الطاقات في سبيل إحداث قفزة نوعية في العملية التعليمية والتربوية. ولا بد من القول إن غياب الفكر الإستراتيجي التربوي يحول دون تكامل الجهود، ويبعثر الكثير من الطاقات التي تبذل في هذا السبيل. فالفكر الإستراتيجي التربوي، ضرورة لعملية التطوير لأنه يحفز العقول ويشحذ الإرادات ضمن أطر وآفاق متكاملة، ويوجه الجهود نحو بؤر أو أهداف محددة ويتواصل مع المنجز التربوي الحديث وفق رؤية تعرف ماذا تريد، وكيف تصل إليه. وثمة حقيقة أساسية لا بد من بيانها مع هذا الإطار وهي أن إخفاق العديد من المبادرات التربوية والمشروعات التعليمية الطامحة في الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، يرجع في المحصلة الأخيرة، إلى غياب الفكر الإستراتيجي التربوي الناظم للجهود والمجمع للطاقات، والموضح للأهداف والمقاصد، والمساهم في اختيار الوسائل والأساليب المناسبة لها. كما أن من متطلبات الدخول الناجح في العصر الحديث، بالنسبة لنا كعرب ومسلمين، توفر فكر إستراتيجي تربوي في محيطنا المجتمعي، يأخذ على عاتقه استنهاض هذا الجسم وبلورة آفاق عمله وحركته التعليمية والتربوية، ووحدات العملية التعليمية والتربوية، وحتى تتكامل مع بعضها، هي بحاجة إلى الفكر الإستراتيجي، الذي يبني قاعدة صلبة من التكامل وتصحيح الاختلالات. وإن أخطر ما يصيب الجسم التربوي من آفات، هو حينما يتفكك بنيانه وتتناقض وحداته في أدائها وعملها وتذوب مؤسسات الفعل التربوي في المحيط العام، بحيث لا يكون لها أي دور متميز على الصعيد العام. ولا شك أن الفكر الإستراتيجي التربوي، يساهم أيضا في إنجاز مفهوم الأمن التربوي والتعليمي. والفكر الإستراتيجي التربوي، يوفر جملة من القضايا والأمور أهمها : 1) تأسيس القواعد التربوية والتعليمية المنسجمة وظروف اللحظة التاريخية التي نعيشها. 2) فسح المجال لكل القوى والطاقات، للمساهمة في تطوير الجسم التعليمي والتربوي. 3) تركيز سلم الأولويات التنموية، وجعل التعليم هو محور العملية وقطبها الأساسي. 4) فتح الباب واسعاً أمام تعميم العلم للجميع، بحيث تستوعب العملية التعليمية كل الشرائح والفئات الاجتماعية. 5) تنمية شبكة واسعة من العلاقات والتواصل التعليمي والتربوي للاستفادة من تجارب الآخرين ومنجزاتهم التعليمية والتربوية. إعادة الاعتبار إلى العلم وقيمه : من الطبيعي القول، ان النهوض التربوي والتعليمي يتطلب إعادة الاعتبار إلى العلم، وجعله محور العملية الاجتماعية، وتقديس كل القيم الضرورية المرتبطة بالعلم، من قبيل الأخلاق والجدية والاجتهاد والعمل والمثابرة والفعالية، وذلك لأن شيوع هذه القيم في المحيط الاجتماعي وإعطاءها الأولوية في عملية التقويم والمفاضلة، يساهمان بشكل كبير في دفع المحيط الاجتماعي بأسره، إلى تمثل هذه القيم وتجسيدها في واقعه الخارجي وهذه هي القاعدة المهمة لعملية النهوض التعليمي والتربوي. فالنواة الأولى للنهوض التعليمي، هي تقديس مطلق العلم، وجعل قيمه ومبادئه، هي محور التقويم والوجاهة الاجتماعية وإن تحديات المرحلة الجديدة ومتطلباتها، تلزمنا إذا أردنا أن يكون لنا دور مذكور في أحداثها وتطوراتها، أن نبدأ بعملية النهوض والتطوير لواقعنا التعليمي والتربوي، فلا مستقبل لنا إلا بالعلم وامتلاك ناصيته، ولا علم متمكن في محيطنا المجتمعي، إلا بتطوير واقع وأداء مؤسساتنا التربوية والتعليمية. لذلك فإن المهمة الحضارية، التي ينبغي أن يشارك الجميع في تحقيقها وإنجازها، هي إحداث قفزة نوعية في دور وأداء وموقع العملية التعليمية والتربوية في محيطنا الاجتماعي، حتى يتسنى لنا الدخول إلى العصر الحديث وتوفير كل متطلباته ومقتضياته، ونحن نمتلك في أقل التقادير إمكانات الحد الأدنى للسيطرة على مصيرنا ومستقبلنا. وثمة مسألة أساسية على هذا الصعيد، من الضروري التأكيد عليها وهي طبيعة العلاقة المرسومة بين التعليم والتنمية.. بمعنى أن العملية التعليمية بكل مراحلها، إذا كانت منفصلة عن مشروعات التنمية وحاجاتها البشرية. فإن الممارسة التعليمية ستكون بلا هدف وطني واضح.. أما إذا كانت العلاقة واضحة، وتحول التعليم بكل مراحله إلى الوعاء العلمي والتدريبي الذي يقدم على مدار العام للتنمية ومشروعاتها المتعددة الكادر البشري المتعلم والمتدرب للانخراط في التنمية فإن التعليم هنا يتحول إلى طاقة خلاقة وحيوية.. لذلك فإن من المتطلبات الملحة في هذا السياق، هي العمل على صياغة العلاقة الإيجابية والمتصلة بين التعليم بكل مراحله والتنمية بكل مشروعاتها وحاجاتها.. وحين تكون العلاقة متكاملة بين أروقة الدراسة ومتطلبات السوق، حينذاك سنتمكن من القضاء على الكثير من المشاكل سواء المتعلقة بالتعليم أو بالاقتصاد ومشروعات التنمية. لذلك كله نحن بحاجة ماسة اليوم، إلى فحص واقعنا التعليمي، وسبل تطويره من مختلف الجهات، حتى يتمكن الوطن بكل شرائحه من الانخراط الفعال في شؤون العصر والحضارة الحديثة.