لعل أول تساؤل تطرحه على نفسك. عند الفراغ من الاستماع لهذه الأغنية. هل حقاً من كتبها رجل مليونير فاحش الثراء مثل جون لينون؟. هذا التساؤل الذي اجتره كثير من النقاد منذ صدورها، وما زال مطروحاً حتى اليوم، حول حلم جون لينون بالمدينة الفاضلة، ذلك الحلم الذي لم يكن بإمكانه إنقاذه من مصرعه، بمدينة نيويوركالأمريكية في ليلة الثامن من ديسمبر عام 1980م، على يد مارك ديفيد تشابمان أحد معجبيه، مفرغاً في جسده خمس رصاصات من مسدسه، الذي حمله في نفس اليد التي تقدمت في وقت مبكر من تلك الليلة، بأحد ألبومات جون لينون ليوقع عليه. مستلهماً أفكاره من أعمال سابقة له، ومتأثراً بقصائد من ديوان "فاكهة العنب" لزوجته يوكو أونو، والتي نشرته في عام 1965م، متأثرة هي الأخرى من طفولتها المأساوية خلال الحرب العالمية الثانية، يمكن الوقوف على سر الكلمات التي أثارت هذا العدد الهائل من الناس حول العالم، بينما يرى البعض بمنطقية ما أميل إليها أيضاً، أن جون لينون لم يستطع أن يتخلص أبداً من الشعور بالألم والغيظ، بسبب مشاكل الهجرة التي منعته من حق الجنسية الأمريكية، أو على الأقل البطاقة الخضراء، التي حصلت عليها زوجته، بينما بقي هو مقيماً لأسباب فنية حتى مقتله في غرة الثمانينيات. كلمات الأغنية يمكن وصفها باختصار، أنها بيان يرفض الرأسمالية والديانات والقوميات، ويدعو إلى مجتمع مسالم لا يعرف المناصب ولا الحكومات ولا البلاد التي تحيطها الحدود، لذا فإن وصفها في تلك الفترة بأنها شيوعية محضة، له أسبابه الوجيهة التي يمكن استخلاصها من كلمات الأغنية المباشرة جداً، لكن الأمر الغريب جداً، هو في انتشارها السريع والحاسم في كل مكان من العالم، وقد يكون السبب في ذلك كما يصرح بذلك جون لينون بنفسه "أنها غمست في العسل"، أي أنه استطاع أن يحليها بطريقته الخاصة سواء في اختيار الكلمات أو تركيبة اللحن الذي اختاره نمطاً هادئاً، النمط المعتاد من موسيقي فذ مثل لينون، الذي نجح في صنع عمل خالد، لا تستطيع أن تتجاوزه أي قائمة، لأفضل الأعمال في التاريخ أو ضمن تصنيفها في النوع الذي تنسب إليه كالبوب أو الروك المطلق. كلمات الأغنية أصبحت فيما بعد، دستوراً ومعياراً أخلاقياً لمدينة "نوتوبيا"، مدينة السلام المتخيلة من قبل لينون وزوجته أونو، والتي أعلنا عنها في مناسبة "يوم الحمقى" في غرة شهر أبريل من عام 1973م، وجعلا لها علماً خاصاً يحتوي على لون واحد هو الأبيض، والذي أصبح فيما بعد علماً لمشروع فرقة "يو تو" وقائدها بونو، منذ ألبومهم الثالث "حرب" عام 1983م، بينما اختار لينون شكل حيوان "أسد البحر"، والذي ظهر على غلاف ألبومه "تحايل" أو "لعبة عقل" عام 1973م، ختماً لتلك المدينة المتخيلة التي لم تجد لها مكاناً، سوى في عقل جون لينون وزوجته، وخلفهما عقول عدد لا بأس من الحالمين. عدد كبير من المغنين ومن لغات مختلفة أعادوا تسجيل الأغنية وتوزيعها، منهم الشاب خالد الذي غناها بالعربية في ألبومه "كنزا" عام 1999م، في ثنائي مع المغنية الإسرائيلية الشهيرة بلقب "نوا" التي صاحبته في الغناء باللغة العبرية، كما أن فرقة "كوين" وإلتون جون ونيل يونغ والمغنية الأمريكية "إيفا كاسيدي" قاموا بغنائها حية على المسرح، وفي عام 2005م حققت مادونا نسخة رقمية لصالح موقع شركة سوني لمساعدة ضحايا تسونامي، مؤكدة أنها وسابقيها من الحالمين، الذي كان يتمنى لينون انضمامهم إليه، في أغنيته التي يمكن تصنيفها ضمن أناشيد الخرافات والأساطير الميثولوجية المعاصرة، بسبب موضوعها التاريخي المتسلسل منذ أيام سقراط والفارابي وغيرهما.