نمط اقتصادي جديد تقوده الخوارزميات.. تنظم وتتخذ قرارات وتدير الموارد.. والمعادلات الرقمية باتت جزءاً من دورة الإنتاج والتوزيع والتسعير والتسويق، وتحولت من خلفية تقنية إلى عنصر فاعل يحدد اتجاه السوق وسلوك المستهلكين ومسار الشركات.. هذا هو واقعنا المختلف.. اقتصاد يقوم على جمع البيانات وتحليلها وربطها بأنماط سلوكية قابلة للتوقع، ثم تحويل هذه النتائج إلى قرارات تشغيلية تؤثر في كل تفصيله من تفاصيل النشاط الاقتصادي، من الإعلان الموجه، إلى إدارة سلاسل الإمداد، إلى تقييم المخاطر، إلى تصميم المنتجات والخدمات. الخوارزميات اليوم تعمل داخل منصات رقمية كبرى على مستوى العالم حيث يتم بناء القيمة الاقتصادية على القدرة على قراءة البيانات في الزمن الحقيقي، وتعديل القرارات بناءً على التفاعل اليومي للمستخدمين.. وهذا النموذج خلق اقتصاداً يعتمد على السرعة والدقة، ويمنح الأفضلية لمن يمتلك بنية تحليلية قادرة على الاستجابة المباشرة لتغير الطلب وتذبذب السلوك الاستهلاكي، وهو ما انعكس على شكل المنافسة، التي أصبحت قائمة على الذكاء التحليلي بقدر اعتمادها على رأس المال. ولذلك، تغيّر مفهوم القيمة المضافة، حيث أصبحت البيانات مورداً اقتصادياً قائماً بذاته، وتم التعامل معها بوصفها أصلاً إنتاجياً يحتاج إلى إدارة وحوكمة واستثمار.. الشركات التي نجحت في هذا الاقتصاد بنت نماذج أعمالها على فهم عميق للأنماط الرقمية، وربطت قراراتها التسويقية والتشغيلية بخوارزميات تتعلم وتتطور مع الزمن، وهو ما أدى إلى رفع كفاءة الإنفاق، وتحسين تجربة المستخدم، وتوسيع القدرة على التنبؤ بالطلب، وتقليل الهدر في الموارد. كذلك اقتصاد الخوارزميات أثّر في سوق العمل عالمياً، من حيث ارتفاع الطلب على مهارات تحليل البيانات، وهندسة الخوارزميات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتراجعت الأدوار التقليدية التي تعتمد على القرار اليدوي البطيء.. هذا التحول فرض على المؤسسات الانتقال من الإدارة القائمة على الخبرة الفردية إلى الإدارة المعتمدة على النماذج التحليلية، مع بقاء العنصر البشري موجهاً للإطار العام والحوكمة والتوازن. لكن رغم هذا الاتساع، هناك تحد يظل قائماً في حوكمة هذا الاقتصاد، وهو الخصوصية، والشفافية، وتأثير الخوارزميات على السلوك العام والقرارات الفردية.. والتعامل مع هذه القضايا يتطلب أطرا تنظيمية واضحة، بما يضمن توظيف الخوارزميات كأداة ترفع كفاءة الاقتصاد وتدعم الاستدامة، وتحافظ على ثقة المجتمع. ولا ننكر أن الخوارزميات محرك قوي للمنتجات وهي أحد أعمدة التحول الرقمي العالمي، والاستثمار فيها يعني استثمار في المعرفة، وفي البنية الرقمية، وفي الإنسان القادر على فهم هذه الأدوات وتوجيهها بشكل صحيح وسليم بما يخدم الاقتصاد والمجتمع.