تُعد تكلفة العمل أحد أهم عناصر هيكل التكلفة في العمليات الصناعية، خاصة في الاقتصادات التي تسعى إلى تعزيز الإنتاج المحلي ومنافسة المنتجات المستوردة، وفي هذا الإطار، جاء قرار إلغاء المقابل المالي عن العمالة الوافدة في المنشآت الصناعية في المملكة كخطوة داعمة تهدف إلى تمكين القطاع الصناعي وتعزيز قدرته التنافسية. غير أن أثر هذا القرار لا يتوقف عند حدود تخفيض التكلفة المباشرة، بل يمتد إلى إعادة توجيه هذه الوفورات المالية لزيادة الاستثمار الإنتاجي، بما يعزز قدرة المصانع على التوسع والاستجابة للطلب السوقي دون ضغوط مالية، وأيضاً تعزيز الكفاءة التشغيلية، وتحسين فرص التصدير إلى الأسواق الإقليمية والدولية. ولا شك أن قرار إلغاء المقابل المالي عن العمالة في المنشآت الصناعية يمثل دعماً مباشراً ومؤثراً للصناعة المحلية، وانعكاساً عملياً لنهج قيادتنا الرشيدة -حفظها الله- في تمكين القطاع الصناعي كإحدى ركائز التنويع الاقتصادي وزيادة المحتوى المحلي. غير أن الأثر الحقيقي لهذا الدعم لا يقاس بحجم التوفير وحده، بل بقدرة المصانع على تحويل الوفورات إلى تحسينات مستدامة في الإنتاجية والجودة والابتكار؛ بحيث يصبح القرار نقطة انطلاق لتعزيز الكفاءة التشغيلية والاستعداد للتحول إلى التقنيات الصناعية المتقدمة مثل الأتمتة، والرقمنة، والتحكم الذكي في العمليات، وهو ما يضمن تنافسية طويلة الأجل تتجاوز أثر التخفيض المالي المؤقت. وكما هو معلوم للجميع فإن أحد أهم مؤشرات نجاح الصناعة ليس فقط قدرتها على تلبية الطلب المحلي ومنافسة المنتجات المستوردة فقط بل قدرتها على النفاذ إلى الأسواق الخارجية؛ فالمصنع الذي يستطيع تصدير منتجاته هو مصنع يمتلك سعراً تنافسياً، وجودة موثوقة، ومعايير مطابقة، وقدرة تشغيلية مستقرة. ومن هنا فإن المرحلة المقبلة للقطاع الصناعي السعودي يجب أن تركز على تعظيم الصادرات الصناعية، وبشكل خاص نحو الأسواق الإقليمية القريبة، حيث تتشابه الاحتياجات، وتقل تكاليف النقل، وتزداد فرص بناء علاقات توريد طويلة الأجل. وعليه فإن استثمار وفورات إلغاء المقابل المالي ينبغي أن يتجه إلى رفع الاعتمادية التشغيلية والجودة وتحسين الجاهزية التصديرية. لا توجد دولة صناعية نجحت لأنها خفضت تكلفة العمل فقط، بل لأنها عرفت كيف تحول كل دعم مؤقت إلى قفزة دائمة في الإنتاجية والتقنية؛ ففي ألمانيا -على سبيل المثال- لم تكن الصناعة قوية لأن العمالة رخيصة، بل لأنها محمية من التذبذب عبر سياسات تخفف الأعباء غير المباشرة في اللحظات الحرجة، ثم إلزام المصانع في المقابل بأن تُحسن أداءها وتستثمر في جودة لا تهتز، وخطوط إنتاج لا تتوقف. أما كوريا الجنوبية، فقد بدأت من نقطة مشابهة لما تعيشه الصناعة السعودية اليوم بدعم واضح للصناعة عبر تخفيف تكلفة المدخلات، لكن الفارق أن الشركات هناك تعاملت مع الدعم على أنه فرصة زمنية لا وضع دائم، فاندفعت نحو الأتمتة وبناء سلاسل قيمة محلية، حتى تحولت من صناعات تعتمد على التكلفة إلى صناعات تنافس بالابتكار. وعلى الطرف الآخر تروي الصين درساً أكثر صراحة؛ فالميزة السعرية الناتجة عن انخفاض تكلفة العمل قد تصنع انتشاراً سريعاً في الأسواق، لكنها لا تضمن الاستمرار. فحين ارتفعت الأجور لم يعد ممكناً الاعتماد على العمالة وحدها، فكان الخيار الأمثل هو الانتقال إلى التصنيع الذكي والرقمنة ورفع الكفاءة. وتأتي تجربة ماليزيا كنموذج في توجيه الدعم، حيث قدمت تخفيضات وإعفاءات، لكنها ربطتها بأداء ملموس من خلال التدريب والإنتاجية وتحقيق قيمة مضافة محلية ونقل المعرفة. وهنا تتضح القاعدة الكبرى في جميع التجارب ألا وهي أن "الدعم الحقيقي ليس ما تقدمه الحكومة فقط، بل ما تفعله المصانع بهذا الدعم بعد أن يصل إليها". ومن هذا المنطلق وبصفتي رجلاً صناعياً فإن إلغاء المقابل المالي في المملكة ينبغي ألا يُفهم كميزة تكلفة تُستهلك في تخفيض سعر المنتج فقط، بل كرافعة تنافسية تُستثمر لصناعة أكثر انضباطاً وقدرة على التصدير؛ لأن الصناعة التي تستطيع الدخول إلى الأسواق الخارجية ليست صناعة تنتج فقط، بل هي صناعة تنافس وتثبت نفسها. لذلك فإني أتمنى على قادة المنشآت الصناعية استثمار وفورات القرار في رفع الإنتاجية وتحسين العمليات التشغيلية، والاستثمار في التقنية والأتمتة والرقمنة وفق خطط مرحلية واضحة، والعمل على تحسين الجودة واعتماد المواصفات التي تعزز القدرة التصديرية بحيث يتم بناء قاعدة تصديرية قوية للأسواق الإقليمية، والعمل على رفع كفاءة الكوادر الوطنية في وظائف ذات قيمة مضافة، فمن خلال تحقيق تلك الاقتراحات نكون قد سلكنا الطريق الأقصر لتحويل الدعم المالي إلى نجاح صناعي مستدام. أخيراً، يمثل إلغاء المقابل المالي عن العمالة في المنشآت الصناعية خطوة داعمة للقطاع الصناعي، إلا أن قيمته الإستراتيجية تكمن في كيفية استثماره؛ فالتجارب العالمية تؤكد أن خفض تكلفة العمل لا يخلق صناعة تنافسية بحد ذاته، بل يصبح مؤثراً عندما يُترجم إلى إنتاجية أعلى، وجودة أفضل، وقدرة مستدامة على منافسة الواردات وقدرة على التصدير. ومن هنا، فإن التحدي الحقيقي أمام الصناعي السعودي هو تحويل هذا القرار من ميزة تكلفة مؤقتة إلى ركيزة لنضج صناعي طويل الأجل. وفي الختام يثمّن الصناعيون وأصحاب المنشآت الصناعية عالياً هذا القرار الحكيم القاضي بإلغاء المقابل المالي عن العمالة في المنشآت الصناعية، والذي يجسد حرص القيادة الرشيدة -حفظها الله- على دعم القطاع الصناعي باعتباره إحدى الركائز الأساسية لتنويع الاقتصاد الوطني وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.