حين نستجلي أبعاد الزمن بكل تناقضاته، يتجلى لنا البعد الثقافي والفني وتحضر بوجهٍ لافت؛ ففي تناقضات الزمن المتباينة، تتجلى جوانب معرفية متعددة، تستحق أن نقف عليها. فالزمن لا يقف عند جانب التعدد لمراحله المختلفة، وبأبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل فقط، ولا يصل إلينا مجردا كما هو، بل أن الزمن عندما يُنقل إلينا غالبا ما يكون محفوف بحمولات مختلفة نفسية وعاطفية وتاريخية واجتماعية وغيرها، ويتولد من خلاله مفهوم آخر بما فيه من عوامل نفسية بوجهيها الفرح والحزن، ولأن الزمن بالضرورة لا يعبر عن الواقع الملموس والمجرد كما هو، بل إن الزمن يتشكل كأداة لإنتاج المعرفة ويتيح لنا معرفة المتواليات من الحزن والفرح، وحتى من الحوار والنقاش والمداولات الفكرية وغيرها، وهنا أود أن أشير إلى مقالٍ كتبته في هذه الصحيفة بعنوان: (الإنسان بين الزمنين)، ما يعني أن الزمن جدير أن يكون موضوعا مهما للتفكير بديمومة مستمرة ومداولاً حين نستدعيه في أوجهه المختلفة، وقد تطرقت في ذلك المقال عن الإنسان كيف يعيش بين بعدي الزمن الخاص أو الزمن العام، وأنه لا تتحقق كامل الشخصية الإنسانية بحضور القيمة العالية والامتداد بعلاقات دمجية. وهي لا تزال قاصرة على زمنها الخاص فقط، لأن العيش في الزمن العام يجعل من نشاط الإنسان ممتد نحو الناس والوجود، بينما الانطواء على الذات يغيّب قدرة الإنسان ضمن العطاء في المساحة الواسعة للزمن العام، من تقديم النفع والخير، وكذا يتبادل المصالح مع المجتمع من معاني قيمّية تطال الوطن، وفي هذا الطرح اليوم يأتي سياق آخر حول موضوع الزمن من نافذة التناقضات؛ ولعلنا ننجح في طرحه كموضوع للتفكير والنقاش، ذلك الزمن الذي يثير فينا العاطفة والشجن وحالة من اللوّعة والوله، وبشعور حار يعتمل في النفس نتيجة أي علاقة أو ذكرى، وفي حال الطلل للشاعر الجاهلي امرؤ القيس يضعنا في السياق نفسه حين قال: ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِي بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَلِ فَيَا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَهُ بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ وهنا لم ينقل امرؤ القيس الزمن الواقعي لنا كما هو، بل كان محمولاً بجوانب نفسية وحمولات عاطفية مختلفة، تعكس حالته النفسية، لواقع في نفسه الذي هو يعيشه شخصيا دون غيره، صحيح أن الزمن يتشكل من خلال اللغة حسب مقتضى حال القائل، ولكن لم يكن ذلك لولا مفهوم واقع في نفسه أدّاء إلى إنتاج معرفة جديدة، وبالتالي عبر عن واقع غير ملموس، واقع عكس حالته الشعورية التي ولّدت عنده أبعاداً من الزمن العاطفي وحالات من الشوق إلى المحبوبة، في المقابل ندرك واقع تناقضات الزمن كما هو الحال عند ابن زيدون حين قال: سِرّانِ في خاطِرِ الظَلماءِ يَكتُمُنا حَتّى يَكادَ لِسانُ الصُبحِ يُفشينا وكما يتضح لنا أن ابن زيدون تعبر بحرقة وألم عن تعاجل الوقت وتَصرّم لحظاته في تناقض تام مع امرؤ القيس الذي يودّ تسارع الوقت وانقِضاء لحظاته، بل أن ابن زيدون يحاول استبطاء الزمن ليعيد مؤشرات الوقت إلى الوراء، وهنا يتضح لنا بجلاء تام الفرق بين شخص ينظر لواقع الزمن بقلبه، وآخر يراه بعقله كطرف محايد يعيش تلك التناقضات من خلال زمن يفيض بتباينات واضحة نلمح فيها فارق المعني للتنوع الزمني من شخص لآخر، وبالتالي تُرصد فلسفة تلك التناقضات المتباينة عند كل طرف، والزمن هو في حقيقته لا يتغير كما هو زمن فيزيائي في نهاره وليله، حيث لا يطول وقته ولا تُقصر مدته، وعند ذلك يتحدد مفهومنا للزمن الحقيقي، من خلال أبعاد الزمن الرديفة التي صنعتها الحالة الشعورية والنفسية لنضعها في المعادلة وفي موضع الفكرة لتتجلى لنا معرفة جديدة وبأنماط مختلفة من تناقضات الزمن، ويتعدد فيها ذلك الزمن تبعا للمكان والحالة النفسية.. وإلى لقاء.