هل يمكن أن يحكم ديوان المظالم على نفسه؟ قد يبدو السؤال مثيراً للوهلة الأولى، لكنه اكتسب واقعيته بعد أن أصدر قاضٍ من قضاة الديوان حكماً يلزم فيه الديوان ذاته برد حق مالي لمتضرر، في مشهد يعكس مستوى العدالة الإدارية في المملكة، وقدرة القضاء الإداري على ممارسة اختصاصه باستقلالية تامة، حتى لو كان الخصم جهة حكومية أو حتى الديوان نفسه. القضية التي رفعتها إحدى الشركات أمام ديوان المظالم للمطالبة بمبلغ يتجاوز 400 ألف ريال، وانتهت بحكم نهائي يلزم الديوان بالسداد، ليست مجرد واقعة قانونية عابرة، بل رسالة واضحة بأن العدالة في المملكة لا تستثني أحداً، وأن القضاء الإداري يمارس سلطته دون مجاملة أو تأثير. وهنا يتجلى الفرق بين قضاء يمارس دوراً وظيفياً، وقضاء يملك القدرة على محاسبة المؤسسات الحكومية ذاتها حين تخطئ. ولمن يخلط بين كون ديوان المظالم جهة قضائية أو إدارية، فإن المرسوم الملكي هو الذي حسم هذه المسألة، مقراً بأن الديوان جهة قضائية مستقلة ترتبط مباشرة بخادم الحرمين الشريفين، بينما ما يصدر عنه من قرارات إدارية داخلية لا يغيّر من طبيعته القضائية، لأن كل جهاز حكومي — بما في ذلك القضاء — يحتاج إدارة داخلية تسيّر أعماله وتبرم عقوده وتدير شؤونه. الاستقلال القضائي لقضاة الديوان مكفول تنظيمياً وإشرافياً عبر مجلس القضاء الإداري، ما يمنح القاضي مساحة كاملة للحكم وفق القانون دون أي تدخل إداري. وخلال الأعوام الأخيرة، شهد ديوان المظالم نقلة نوعية في الأداء والتحول الرقمي، كان أبرزها تسجيل أكثر من 73 ألف جلسة رقمية في الربع الأول من عام 2025م بزيادة 6 آلاف جلسة عن الفترة ذاتها من العام السابق، إضافة إلى إنجاز أكثر من 46 ألف دعوى وطلب، بارتفاع يقارب أربعة آلاف دعوى عن الفترة نفسها من 2024. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات تشغيلية، بل تعبير عن جهاز قضائي يتطوّر، ويحسّن خدماته، ويحصد جوائز إقليمية ودولية تعكس جودة أدائه، مثل جائزة الشرق الأوسط، وجائزة ستيفي الذهبية، وشهادات الاعتماد الدولية. وفي دولة تقوم على مبادئ العدالة والمساواة وسيادة القانون، لا يمكن أن يكتمل البناء القانوني دون قضاء إداري مستقل يقاضي الجهات الحكومية حين تتجاوز صلاحياتها أو تسيء استخدام سلطتها. وهنا تأتي أهمية ديوان المظالم باعتباره الملاذ القانوني لكل من يتضرر من قرار أو تصرف إداري، حيث ينفذ أحكامه بالقوة الجبرية، ويخضع هو نفسه لأي طعن أو مساءلة قضائية، وهذا بحد ذاته يعزز ثقة المجتمع ويكرّس مبدأ سيادة القانون على الجميع. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه كلما كانت الجهة المدعى عليها هي الديوان ذاته أو أحد مكوّناته الإدارية: كيف يضمن الديوان حيادية الحكم في مثل هذه النزاعات؟ التجارب العملية، ومنها الحكم الأخير، تُظهر أن القضاء الإداري في المملكة قادر على الفصل بين شخصيته كجهة قضائية ومركزه كجهة إدارية تصدر قرارات قد تُخطئ وقد تُصحّح. وهذه القدرة على فصل الأدوار هي جوهر استقلال القضاء، وجوهر المصداقية التي تجعل المواطن والمقيم والمؤسسة يشعرون بأن أبواب العدالة مفتوحة للجميع بلا تمييز.