"نمطُ الحياة البسيطة هدفٌ بعيد المنال للغاية بالنسبة لي، وسأنتظر حتى يأتي أناس أكثر حكمة مني ليعثروا لنا عليه." بهذا البوح الشفيف اعترف فريدريك نيتشه، في كتابه إنساني مفرط في إنسانيته، بصعوبة بلوغ الحياة البسيطة؛ لا لأنها مستحيلة، بل لأنها تبدو - ويا للمفارقة - أبعد ما تكون عن منالنا رغم حضورها القريب منا. فهذا البُعد ليس بُعدًا حقيقيًا، بل مسافة نفسيّة تصنعها العادات، والأوهام، والتصورات، والمظاهر، وتشابك الرغبات وكأنها تمارس علينا مخادعة تبعدنا عن البساطة الحقيقية وكما قال إيليا أبو ماضي: إني لأعجب منا كيف تخدعنا عن الحقائق أمثال وأشباه ومن هنا يمكن القول إننا لا نحتاج، في ظاهر الأمر، أكثر من الالتفات نحو الداخل، نحو الحياة التي تجري فينا، كي نبدأ الرحلة، غير أنّ هذه الالتفاتة هي نفسها الممرّ الأكثر وعورة؛ إذ تتطلّب أن نخلع عن ذواتنا قواقعها: تلك الأحمال الثقيلة من التعلّقات، وما تراكم فينا من المعتقدات والتصورات والأفكار والظنون التي تعيق المسير نحو البساطة. وهكذا تصبح العودة إلى البساطة رحلة مزدوجة: قريبة من حيث المبدأ، عسيرة من حيث التجربة، لكنها الطريق الوحيد نحو حياة نعيشها بلا ضجيج وصراع مع ذواتنا، لقد غدا الإنسان المعاصر يعيش في حالة من "الوفرة الخانقة"؛ يتكدّس حوله كل شيء إلا المعنى. وقد عبر أحدهم ذات يوم فقال: وإنَّ قليلاً من القُوتِ أعيشُ به أحبُّ إليَّ من الكثيرِ المكدَّسا في هذا السياق، لا تعود البساطة خيارًا شكليًا، بل موقفًا وجوديًا، إنها محاولة لاستعادة الذات من تحت أنقاض المشتتات وبريق الشاشات، أن تحيا ببساطة لا يعني أن ترفض المدنية، بل أن تُعيد ترتيب أولوياتك؛ أن تستخدم التقنية - وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي - على نحوٍ يقوّي تجربتك الإنسانية، لا على نحوٍ يفتح لك نوافذ القلق والتعلّق والحقد والأحزان. أن تسأل نفسك: ما الذي أحتاجه حقًا؟ وما الذي يستهلكني دون أن يضيف إلى حياتي قيمة؟ فالبساطة، في جوهرها، أن تتخفّف ممّا لا ضرورة له، وأن تختار ما يزيدك حياةً لا ما يثقل نفسك قلقًا. تأتي البساطة من الداخل، حين نراجع علاقتنا بأنفسنا أولًا؛ ثم بالأشياء والناس من حولنا. أن نأكل باعتدال، لا بدافع الحرمان، بل بدافع الحرية؛ الحرية من التعلّق، ومن سلوكيات الأكل الإدماني، ومن الانسياق خلف ما تمليه الشهية أو العادة، تلك التي تقودنا إلى التخمة لا إلى الشبع. أن نعيش في مسكن يليق بحاجتنا، لا بما تمليه المقارنة مع الآخرين. أن نركب سيارة تناسب حاجتنا وقدرتنا المالية، لا أن تثقل كاهلنا بديون لا طائل منها أن نرتّب يومنا بما يُنظّم الداخل، لا بما يُرضي الخارج. وأن نقوّي علاقتنا بما هو حيّ فينا: الصلاة، التأمل، الصحبة الصادقة، الذوق البسيط، والفكر الذي لا يستند إلى الصخب. ولعلّ ما يبيّن هشاشة علاقتنا بالوفرة ما روته لي إحدى المراجعات في العيادة: قالت إنها سافرت مع زوجها إلى نيويورك، وحجز لها على الدرجة الأولى، ومع ذلك شعرت بأن فلانة وفلانة أكثر وفرة منها، وأن لديهما ما ليس عندها. وهذا مثال واضح على صناعة التعقيد، والبُعد عن البساطة من خلال المقارنة. بعد الحديث عن هشاشة علاقتنا بالوفرة وصناعة التعقيد بالمقارنة، تبرز البساطة أيضًا كطريق للتصالح مع قدرنا، والكفّ عن مطاردة ما ليس لنا، وعن مقارنة رحلتنا برحلات الآخرين. ففي عالم منصات العرض، واستعراضات المشاهير؛ صارت حياة الناس واجهات لامعة، يخبو خلفها الكثير من الخواء، والخوف، والنقص، والحاجة إلى إثبات الذات. والبساطة هنا، أن نكون صادقين في مساراتنا، وألا نُنهك أنفسنا بما لا يزيدنا إلا تيهًا. أن تحيا ببساطة يعني أن تنتمي إلى لحظتك، لا إلى ماضيك ولا إلى هلع المستقبل. أن تجد الفرح في أبسط التفاصيل: في صوت العصافير، أو رائحة القهوة، أو كتاب يوقظ فيك المعنى. أن تصنع من حياتك لحظات قابلة للحب، ليس لأن كل شيء مثالي، بل لأنك تعلم كيف ترى المعنى في تفاصيلها الصغيرة. إن العودة إلى الحياة البسيطة ليست انكفاءً، بل شجاعة؛ شجاعة أن تقول: لا حين يُلحّ عليك الاستهلاك، وأن تقول: كفى حين يطلب منك العالم أن تكون في سباق لا ينتهي، وأن تقول: نعم للسكينة، والاتساق، والرضا، وللتقبّل، والقبول. هذه هي 'الحياة نحو الحياة': لا الحياة كما تُعرض علينا، بل كما يُمكن أن تُعاش. وأخيرًا، أؤكد أن البساطة التي أعنيها هي البساطة بوصفها عمقًا، لا فقرًا؛ واختيارًا وجوديًا، لا انسحابًا من العالم. إنها استعادة المعنى قبل أن تكون تقليصًا للأشياء. إنها حياة تعاش بنية صادقة، وروح خفيفة، وبصيرة ترى في القليل كثيرًا، وفي الحاضر كفاية، وفي الذات مواطن الدهشة الأولى. فهل نحن مستعدون لهذه البساطة؟ أم أننا ما زلنا نظن أن الحياة تُشترى، بينما هي تُصنع في الداخل، على مهل، وبقلب يريد أن يعيش لا أن يستهلك. وسأختم بشيء من جميل ما قاله أيليا أبو ماضي: هو عبء على الحياة ثقيل من يظن الحياة عبئًا ثقيلًا..