في الماضي، كان التفاخر بالمظاهر موجوداً، لكنه لم يكن بهذه الكثافة والسطحية، كانت الفخامة محصورة غالباً في الطبقات العليا، وما تقترن بمكانة اجتماعية أو علمية حقيقية، أما اليوم، فقد صارت الفخامة مُتاحَة للجميع بالاقتراض، أو بالتقليد، أو بالتصوير فقط، أصبحت الواجهة الفاخرة متاحة ولو كانت وهمية، وصار الشخص يُقاس بما يبدو عليه لا بما هو عليه فعلاً. ففي كل يوم، نصادف من يتصنع حياة المترفين عبر وسائل التواصل الاجتماعي: فنجان قهوة بجانب ساعة باهظة، صور سفر مدروسة الزوايا، سيارة مستأجرة ليوم واحد تُعرض وكأنها جزء من الحياة اليومية. الهدف؟ إقناع المتابعين بأنك تعيش حياة "الفخامة"، حتى لو كنت تقف على أرضية هشة من الداخل. هذا العصر يُغذي في الناس رغبة لا تنتهي في التنافس المظهري، من يلبس أفضل؟ من يملك أثاثاً أغلى؟ من يحتفل بطريقة أفخم؟ حتى المناسبات التي كانت سابقاً لحظات خاصة مليئة بالمشاع كالأعراس، والتخرج، والمواليد تحولت إلى عروض استعراضية على مسرح "الستوري" و"الإنستغرام". النتيجة؟ انتشار القلق الاجتماعي، والضغط النفسي، والإحساس بالنقص المستمر؛ لأن المقارنة أصبحت يومية، والمقاييس غير منطقية، من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالعجز حين يرى من حوله "يعيشون" الرفاهية المطلقة، بينما هو يكدّ ويجتهد بالكاد لتوفير الأساسيات. الحقيقة المخفية خلف هذه العروض، أن كثيراً ممن يتفاخرون بالمظاهر، لا يعيشون تلك الحياة فعلاً. إنهم فقط يسعون للانتماء إلى طبقة معينة، أو الهروب من عقد داخلية، أو إثبات شيء ما أحياناً لأنفسهم قبل الآخرين. هذا الانجراف وراء الفخامة، تآكلت بسببه الكثير من القيم الحقيقية، لم يعد الصدق، أو العلم، أو الجهد، هو ما يُعلي من شأن الإنسان، بل كم متابع لديك، أي ماركة ترتدي، وأين تسافر، وكيف يبدو منزلك في الصور والأهم هل لديك علاقة مميزة مع رجل أعمال! كثير من الأشخاص المجتهدين، البسطاء، العميقين، صاروا يشعرون أنهم غير مرئيين، لأنهم لا يملكون "ديكور الفخامة"، وهذا يُشكل خطراً اجتماعياً كبيراً، لأن القيمة الزائفة تبدأ في إقصاء القيمة الحقيقية من المشهد العام. بعض الناس بدأوا يتخذون قرارات حياتية مصيرية (كالزواج، أو اختيار العمل، أو حتى تكوين صداقات) بناءاً على المظاهر فقط. من يبدو ناجحاً، يُمنح الثقة. من يبدو ثرياً، يُظن أنه ذكي، ومن لا يظهر، يُنسى. ليس كل من يعيش الفخامة يعاني من الفراغ، لكن كثيراً من الهوس بالمظاهر نابع من شعور داخلي بالنقص، الإنسان حين لا يجد قيمة داخلية يُمسك بها، يبدأ في تغليف نفسه بقيم سطحية تُبهر الناس، ولو مؤقتاً، فيصبح مهووساً بالصورة، لأنه يخاف من مواجهة الحقيقة. هذا الهروب إلى المظاهر ليس مشكلة نفسية فقط، بل يخلق أيضا هوّة عاطفية بين الناس، العلاقات تصبح سطحية، مشروطة بالمظهر، خالية من العمق، كل شيء يُقاس بما يبدو عليه، لا بما يشعر به أو يُمثله فعلاً. التحرر من هذا الضغط لا يأتي بكلام نظري فقط، بل يتطلب وعياً شخصياً وقراراً جريئاً بالعودة إلى البساطة، إلى الصدق، إلى العمق. هنا خطوات قد تساعد: الامتنان لما تملك: حين تقدر ما لديك، سيقلّ ضغط التقليد والمقارنة. التركيز على الجوهر: ابحث عمن يقدّرك لأفكارك وأخلاقك، لا لمنزلك أو شكلك. التقليل من الاستعراض الرقمي: ليس كل ما تعيشه يحتاج أن يُعرض، وليس كل ما يُعرض حقيقي. إعادة تعريف النجاح: النجاح ليس دوماً ثروة أو شهرة، بل أحياناً راحة نفسية، وأسرة متماسكة، ورضا داخلي. الصمت عن المقارنة: المقارنات المستمرة تقتل السلام، توقف عن مقارنة نفسك بما يُنشر على الشاشات. أخيراً، عصر الفخامة والمظاهر قد يبدو براقاً من الخارج، لكنه يحمل في طياته الكثير من الضغوط والفراغات النفسية، هو زمن زاد فيه التجميل على الحقيقة، والاستعراض على الصدق، لكن وسط هذا الضجيج، تظل هناك مساحات من الوعي، وأشخاص يختارون أن يعيشوا الحياة من الداخل، لا من الواجهة. أن تكون بسيطاً، حقيقياً، متصالحاً مع ذاتك، هو رفاهية لا يشتريها المال، أن تُقدّر بما تملك من فكر وقيم، لا بما تلبسه أو تركبه، هو انتصار نادر في هذا العصر، فاختر أن تكون أنت، لا ما يريدونك أن تبدو عليه. عبدالكريم الدريبي