ثروات معدنية هائلة تزخر بها المملكة العربية السعودية، وسعت إلى اكتشافها وتنميتها؛ إذ شهد عام 1997 انطلاقة واعدة، اكتسبت زخمًا متسارعًا مع إطلاق رؤية السعودية 2030، التي جعلت من التعدين ركيزة ثالثة للاقتصاد الوطني، إلى جانب قطاعي الصناعة والطاقة. حيث تحتضن أراضي المملكة أكثر من 45 معدنًا متنوعًا، تشمل الذهب والزنك واليورانيوم، وغيرها من المعادن الثمينة؛ لتُقدّر إجمالي ثرواتها المعدنية بأكثر من 9.4 تريليونات. ولاستثمار مواردها الثمينة؛ تتبنى المملكة رؤية شاملة لتطوير سلاسل القيمة المعدنية؛ لتلبي الطلب المحلي، وتوسع نطاق الوصول إلى الأسواق العالمية، من خلال إجراء مسوح جيولوجية، وتحديد الفرص الاستثمارية؛ بما يُساعد على استقطاب الاستثمارات، وبناء صناعة تعدين متطورة، تُسهم في تنويع الاقتصاد، وتوفير فرص العمل، بجانب تعزيز مكانة المملكة في سلاسل الإمداد العالمية، عبر الاستثمار في مزاياها التنافسية. تأتي استراتيجية قطاع التعدين امتدادًا لرؤية السعودية 2030 التي استشرفت فرص المستقبل، هادفة إلى الاستثمار الأمثل للثروات المعدنية الهائلة، وترسيخ مكانة قطاع التعدين كركيزة ثالثة للتنمية الصناعية الوطنية، إلى جانب قطاعي النفط والبتروكيماويات؛ إذ تتمحور حول إجراء المسوح الجيولوجية، واكتشاف الفرص الواعدة، وتقديم الحوافز التي تستقطب المستثمرين المحليين والدوليين. يُمثل صدور نظام الاستثمار التعديني الجديد خطوة تاريخية ونقلة نوعية في مسيرة القطاع، حيث يهدف إلى تعزيز ثقة المستثمرين ومواءمة الأنظمة مع المعايير العالمية. وشمل ذلك خفض معدل الضريبة من 45% إلى 20%، مما أسهم في جعل القطاع أكثر جاذبية للاستثمار. بالإضافة إلى ذلك؛ شُكلَ فريق متخصص لتعزيز الاستثمارات في القطاع، من خلال تطوير إطار استثماري متكامل وفق أعلى المعايير، وتوسيع نطاق الفرص السوقية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية. كما تضمن النظام تحديث اللوائح التنظيمية وتحسين الكفاءة التشغيلية، مما ساهم في خلق بيئة استثمارية محفزة وزيادة تنافسية قطاع التعدين على المستوى العالمي. كما تُولي الاستراتيجية اهتمامًا خاصًا بتطوير سلاسل إمداد التعدين؛ لضمان أن تكون الموارد المعدنية السعودية رافدًا للصناعات المحلية، وتعزيز تكاملها مع الأسواق العالمية. شهدت المملكة تحولاً لافتاً في نشاط الاستكشاف التعديني، بحسب تقرير أصدرته وزارة الصناعة والثروة المعدنية، والذي أوضح أن الإنفاق على أعمال الاستكشاف قفز بأكثر من خمسة أضعاف بين عامي 2020 و2024، ليصل إلى 1.05 مليار ريال وهو الأعلى في تاريخ القطاع. وجاء هذا النمو مدفوعاً بارتفاع استثمارات القطاع الخاص بنسبة 397%، حيث صعدت من 155 مليون ريال في 2020 إلى 770 مليون ريال في 2024. كما سجّل الإنفاق الحكومي قفزة أكبر، بارتفاع بلغ 16 ضعفاً ليصل إلى 180 مليون ريال في 2024 مقارنة ب11 مليون ريال في 2020. ويعكس هذا التوسع تحوّل هيكل القطاع التعديني، بعدما أصبح القطاع الخاص المحرك الرئيس للإنفاق والنشاط الاستكشافي، في ظل بيئة تنظيمية محفزة ومبادرات حكومية عززت الاستثمار المستدام في التعدين. وارتفع الإنفاق على الاستكشاف إلى "539" ريالًا لكل كيلومتر مربع في عام 2024، مقارنة ب"105" ريالات فقط في عام 2020، لتتقدم المملكة من المرتبة العشرين إلى المرتبة الثانية عشرة عالميًّا في هذا المؤشر، محققة معدل نمو سنوي يقارب "50%" خلال أربع سنوات، وهي من أعلى نسب النمو المسجلة عالميًّا. إلى ذلك نفذت وزارة الصناعة والثروة المعدنية -ممثلة في وكالة الإشراف على العمليات التعدينية- 1,069 جولة رقابية على عددٍ من المواقع التعدينية في مختلف مناطق المملكة خلال شهر أكتوبر الماضي، ضمن جهودها في التحقق من التزام المواقع التعدينية بنظام الاستثمار التعديني، وتوجيه الإنذارات عند رصد أي مخالفات، تطبيقًا لمبدأ الإنذار قبل إقرار العقوبة. وتهدف الوزارة إلى تعظيم القيمة المحققة من الموارد المعدنية في المملكة، وزيادة جاذبية قطاع التعدين ليكون الركيزة الثالثة للصناعة الوطنية وفق مستهدفات رؤية المملكة 2030، إضافة إلى إسهام القطاع في تنويع مصادر الدخل الوطني وتنمية الإيرادات غير النفطية، وتقدر قيمة الثروات المعدنية في المملكة بنحو (9,3) تريليونات ريال، تنتشر في أكثر من (5,300) موقع. كما أظهر تقرير الاستكشاف التعديني في المملكة تقدماً لافتاً في النهج المتبع لتطوير القطاع، إذ ركزت المملكة على المراحل المبكرة من الاستكشاف، موجّهةً أكثر من 70% من إجمالي الإنفاق نحو مشاريع في مناطق جديدة لم يسبق استكشافها أو لا تحتوي على أي نشاط تعديني معروف. وتمثل هذه النسبة أعلى مستوى بين 21 دولة شملتها المقارنة الدولية، ما يعكس التزام المملكة بتوسيع قاعدة مواردها المعدنية وفتح آفاق جديدة للثروات الطبيعية. وعلى مستوى الشركات، شهد القطاع توسعاً غير مسبوق؛ إذ ارتفع عدد شركات الاستكشاف النشطة من 6 شركات فقط في عام 2020 إلى 226 شركة في 2024، أي بنمو يتجاوز 36 ضعفاً. كما زاد عدد الرخص النشطة إلى 841 رخصة مطلع عام 2025، مقارنة ب500 رخصة في 2020، أي بنمو قُدّر بنحو 68%. أما المساحات الخاضعة للاستكشاف فحافظت على استقرار نسبي، مرتفعة من 38 ألف كيلومتر مربع في 2020 إلى نحو 42 ألف كيلومتر مربع في 2025، في مؤشر على تركيز الجهود نحو التعمق في الدراسات الفنية داخل المناطق القائمة بدلاً من التوسع الأفقي، وهو ما يسهم في رفع جودة وكفاءة المخرجات الجيولوجية. وبيّن التقرير أن جولات التراخيص الثماني، التي انطلقت عام 2022، أسفرت عن التزام الشركات بإنفاق يتجاوز 1.2 مليار ريال على أنشطة الاستكشاف، مع توسع واضح في المواقع المطروحة التي ارتفعت من موقع واحد في الجولة الأولى إلى 29 موقعاً في الجولة التاسعة لعام 2025. كما استقطب القطاع اهتماماً واسعاً من المستثمرين العالميين؛ إذ شكّل المستثمرون الأجانب نحو 66% من إجمالي المستثمرين في قطاع التعدين، مقابل 34% للمستثمرين المحليين، مع مشاركة شركات وتحالفات من كندا وأستراليا والمملكة المتحدة والصين والهند وإندونيسيا، ما يعكس الثقة بالبيئة التنظيمية والاستثمارية التي وفرتها المملكة. وسجل قطاع الاستكشاف نمواً ملحوظاً في إنفاق الشركات، حيث ارتفعت مصروفات الحفر من 152 مليون ريال في 2023 إلى 230 مليون ريال في 2024، فيما قفزت تكاليف الاختبارات المعملية إلى 81 مليون ريال في 2024 مقارنة ب21 مليون ريال في العام السابق، أي ما يقارب أربعة أضعاف، إضافة إلى إنفاق على الدراسات الفنية، والمسح الجيولوجي، ورسم الخرائط، والنفقات التشغيلية، ومتطلبات البيئة والحوكمة (ESG). ويعكس هذا الزخم تكامل الأدوار بين القطاعين الحكومي والخاص، بقيادة هيئة المساحة الجيولوجية السعودية التي تعمل على بناء قاعدة بيانات وطنية متكاملة عبر البرنامج الجيولوجي الإقليمي (RGP) وبرنامج الاستكشاف المسرّع (AEP)، بهدف تحديد الإمكانات المعدنية وتسريع خطوات جمع وتحليل البيانات. وتشير المعطيات الجيولوجية إلى أن المملكة تمتلك قاعدة موارد غنية تضم 933 موقعاً استكشافياً في مراحل تقييم مختلفة، من بينها 691 موقعاً للذهب والمعادن المصاحبة، و242 موقعاً لمعادن الأساس مثل الزنك والنحاس، ما يعزز مكانة المملكة كوجهة واعدة للتعدين والاستثمار في الموارد الطبيعية. الرياض - حازم بن حسين