خرجت الدورة السادسة والأربعون للمجلس الأعلى لدول مجلس التعاون في المنامة بنتائج تعيد تثبيت حقيقة مركزية في معادلة الإقليم: أن الخليج صانع لتطورات المنطقة واتجاهاتها، ومؤسس وتوازناتها، ومالك لرؤية سياسية واقتصادية وأمنية تتقدم بثقة نحو تجسيد مرحلة أكثر وضوحًا واستقرارًا. لقد عكست القمة، بمضمونها وتفاصيل بيانها الختامي، حجم التحول في التفكير الخليجي، القائم على بناء شراكات دولية أوسع، وتطوير منظومات تكاملية، وتعميق فكرة الأمن الجماعي بوصفها ضمانة مستقبلية لا يمكن التراجع عنها. أبرزت القمة أولويات واضحة: أمن دول المجلس كل لا يتجزأ، وهو مبدأ جرى تأكيده بصرامة في القضايا الإقليمية وفي مقدمتها: مواجهة التدخلات التي تهدد استقرار المنطقة. كما أعاد القادة التأكيد على تنفيذ رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- لتعزيز العمل الخليجي المشترك، بما في ذلك استكمال متطلبات الوحدة الاقتصادية والمنظومتين الدفاعية والأمنية. هذا الإصرار على التحول من التعاون إلى الاتحاد يعكس إرادة سياسية ترى في الاندماج الخليجي ضرورة إستراتيجية وليست خيارًا ترفياً. اقتصاديًا، سجلت القمة خطوات نوعية، من الاتفاق على تشغيل منصة تبادل البيانات الجمركية، إلى التقدم في مشروع سكة الحديد الخليجية، مرورًا بإطلاق برامج تشجع الصناعة والتكامل اللوجستي، وصولًا إلى إنشاء هيئة الطيران المدني الخليجية. وهي منظومة تشكل بمجملها خارطة طريق لتحويل الخليج إلى كتلة اقتصادية منسقة تمتلك قابلية الاندماج في سلاسل القيمة العالمية. وفي الملفات الدولية، رسخت القمة موقفًا خليجيًا موحدًا تجاه القضية الفلسطينية، مؤكدةً مركزيتها، وداعمةً لوقف الحرب على غزة وتنفيذ حل الدولتين، ومؤيدةً لجهود المملكة العربية السعودية وقطر ومصر وتركيا في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وتسهيل تدفق المساعدات، ودعم مسار إعادة الإعمار. كما شدد القادة على رفض محاولات تغيير الوضع القانوني في القدس أو فرض السيادة بالقوة، في رسالة سياسية واضحة لمرحلة تتطلب ثباتًا أخلاقيًا ودبلوماسيًا في آن واحد. ولم تغفل القمة عن محيطها الأوسع: العراق، اليمن، سوريا، لبنان، السودان، القرن الأفريقي، وأزمات الملاحة في البحر الأحمر. الموقف الخليجي الداعم للاستقرار في هذه الدول لم يكن مجرد تضامن سياسي، بل رؤية أمنية تدرك أن حماية الخليج تبدأ من حماية محيطه الحيوي، وأن تسويات الإقليم لا يمكن أن تتم بمعزل عن دور خليجي فاعل. أما في ملف الطاقة والمناخ، فقد أكدت دول المجلس تبني نهج متوازن لا يقصي أي مصدر للطاقة، مع دعم مبادرات الاقتصاد الدائري للكربون، ومبادرات السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، بوصفها نموذجًا عالميًا للتعامل المسؤول مع التحولات المناخية. ختامًا، أثبتت قمة المنامة أن مجلس التعاون يقف على أعتاب مرحلة جديدة: مرحلة تدار فيها ملفات الأمن، والاقتصاد، والشراكات الدولية، بعقلية أكثر جرأة، وأكثر انسجامًا، وأكثر استعدادًا لتقديم حلول خليجية لقضايا إقليمية ودولية متشابكة. إنها قمة ترسم ملامح الخليج القادم: خليج أكثر اتحادًا، أكثر تأثيرًا، وأكثر ثقة بدوره ومكانته في العالم.