تُسهم الفنون في ترسيخ الصورة الذهنية لبلدانها وتعزيز مكانتها الثقافية على الصعيد العالمي. يتضح ذلك من خلال المؤسسات المتحفية الضخمة مثل فرنسا التي تضم حوالي 1200 متحف فني، من بينها متحف أورسيه (Musée d›Orsay) الذي يحتوي على أكثر من 86 ألف عمل فني. وفي مصر التي تفخر بمتحف الفن المصري الحديث بالقاهرة الذي يضم أكثر من 11 ألف عمل فني. إنّ وجود تلك المؤسسات المتحفية يُظهر دورها المحوري في الحفاظ على الهوية الثقافية الوطنية. والفنانون التشكيليون في المملكة العربية السعودية خطوا خطوات واضحة وناجحة في هذا المجال، مقدمين إنتاجًا فنيًا يعكس صور الحياة اليومية، والعادات، والتقاليد، والثقافة السعودية، والتراث المعماري. حيث يُعبّر الفنانون السعوديون عن ممارسات المجتمع وهويتهم السعودية في أعمالهم بطريقة صادقة ومؤثرة، أمثال عبدالله بن صقر الذي تميزت أعماله بتصوير الفلكلور السعودي، وعبدالحليم رضوي الذي يعد من رواد الفن التشكيلي السعودي وتتميز أعماله باستخدام الخطوط الدائرية والزخارف العربية التي تعكس هوية مكةالمكرمة. ومن أبرز أعماله لوحة «أبواب مكة»التي تجسد البوابات التاريخية للحرم المكي بألوان ترابية دافئة تتراوح بين الذهبي والبني المحروق، حيث استخدم تقنية الأكريليك على القماش لإبراز التفاصيل المعمارية الدقيقة للأقواس الإسلامية، مع دمج الخط العربي كعنصر تشكيلي يمنح العمل بُعدًا روحانيًا وثقافيًا عميقًا. كما تُجسّد أعمال الفنان ضياء عزيز الاحتفاء بالوطن وممارسات الحياة اليومية. والكثير غيرهم من الفنانين السعوديين الذين عبّروا عن هويتهم في أعمالهم الفنية، أمثال صالح النقيدان ومحمد العجلان ومحمد المنيف، أحمد المغلوث، محمد السليّم، حيث تشهد الساحة الفنية السعودية نمواً ملحوظاً، فيُقدّر عدد الفنانين التشكيليين المسجّلين لدى الجمعية السعودية للثقافة والفنون بأكثر من 500 فنان وفنانة، مع إنتاج سنوي يتجاوز آلاف الأعمال الفنية المتنوعة. ومع ذلك لا تزال المملكة العربية السعودية تفتقر إلى متحف وطني «فني» متخصص يحتضن هذا الإبداع بكل أشكاله، مُعطياً له الفرصة للتألق والانتشار. على الرغم من جودة وأصالة الفنون السعودية التي أبدعها الفنانون السعوديون، إلا انها ماتزال متفرقة في معارض العالم. هذا الواقع يقودنا إلى ضرورة ملحّة، أن الوقت قد حان لنحظى في المملكة العربية السعودية بمتحف للفن البصري يجمع كل الفنون السعودية والحديثة في مكان واحد. يُقدِّر قيمتها الفنية ويُبرز حضورها على المستوى العالمي، على غرار متحف اللوفر في فرنسا الذي يستقبل أكثر من 9 ملايين زائر سنويًا، أو متحف الفن الحديث (MoMA) في نيويورك الذي أصبح مرجعًا عالميًا للفن المعاصر. ورغم أن المملكة تخطو خطوات واعدة نحو هذا الاتجاه من خلال مشروع متحف الفن الجديد في الدرعية الذي سيُشكّل إضافة مهمة للمشهد الثقافي السعودي عند افتتاحه، إلا أن الحاجة ملحّة لتسريع هذا المشروع وربما التفكير في مؤسسات متحفية إضافية تغطي جغرافيا المملكة وتُنوّع إنتاجها الفني. إنّ عرض هذه الأعمال مجتمعة في مؤسسة واحدة متخصصة سيُسهم في ترسيخ العادات والممارسات الثقافية وتثبيت حضورها في ذهن المتلقي، حيث ستعمل المتاحف الفنية المتخصصة على نقل هذا التأثير بصورة إيجابية تُعلّم الزائرعن الفن السعودي الأصيل والممارسات الثقافية المجتمعية. ولا يقتصر ترسيخ الصورة الذهنية عن المملكة على اللوحات والأعمال التشكيلية لكنه يمتد ليشمل كل أشكال الفنون والإنتاج الفني مثل الفنون اليدوية والحرفية و الأزياء وغيرها التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من هويتنا البصرية. وفي هذا الإطار، تحتفي وزارة الثقافة السعودية بمبادرات مثل معرض «بنان: الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية» بإظهار الحِرف الأصيلة والمتنوعة من نسيج ونحت وأشكال فنية أخرى و لفترة مؤقته. إلا أن هذه الأعمال في رأيي تستحق أن تُعرض في معارض دائمة وفق معايير فنية خاصة بها، بعيدًا عن تصنيفها كحرفة شعبية، وأن تحظى بفرصة متساوية للعرض في المتاحف، فهي إنتاج بشري راقٍ له تاريخه وطابعه الثقافي ويعكس معنىً مهمًا للمجتمع، ليصبح جزءًا من السرد المعروض في المؤسسات الثقافية. ورغم التقدم، لا تزال بعض هذه الفنون تُصنَّف كفن شعبي أو ثانوي، وكأنها تنتمي إلى هامش الفن لا إلى مركزه. هذا التصنيف يعكس نظرةً تقليدية لمفهوم الفن في بعض المؤسسات والمجالات الثقافية، حيث يُفهم الفن على أنه ما يَتبع المدارس الغربية أو ما يُعرض في المتاحف الكبرى، بينما يُهمّش الإنتاج المحلي الذي ينشأ من السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمع. هذه النظرة تقلل من قيمة الأعمال الفنية السعودية، وتُخفي عن الجمهور ثراء التجربة البصرية المحلية وقدرتها على التعبيرعن الهوية. كما أنها تحُد من فرص الفنانين في الوصول إلى جمهور أوسع ، وتؤخر اعتراف المؤسسات الأكاديمية والفنية العالمية بإسهاماتهم. إذا استمر هذا التصنيف المتحيّز، فإن جُزءاً كبيراً من الإرث الفني والثقافي للمملكة سيظل غيرمرئي أو غير مُقدَّر، وهذا يعني ضياع فرصة حقيقية لترسيخ الصورة الذهنية الإيجابية للمملكة على المستويين المحلي و الدولي. الفنون التي تُعتبر «هامشية» تحمل في الواقع رسائل ثقافية واجتماعية غنية، لذا يجب إعادة النظر في معايير التقييم الفني لتصبح أكثر شمولية وعدالة، بحيث تعكس تنوع الإنتاج الفني المحلي وتُقَدّرأهميته كجزء أصيل من المشهد الفني العالمي. إنّ أهمية المتاحف والمؤسسات الثقافية تكمن في أنها تحفظ هذه الأعمال الفنية، وتمنحها القدرة على التواصل مع الجمهور بشكل مباشر. فتخلق جسرًا بين الإنتاج الفني المحلي والصورة الذهنية الايجابية عن المملكة التي تسعى في ترسيخها داخليًا وخارجيًا. كما أن عرض هذه الفنون بشكل دائم سيُسهم في رفع مكانتها من إنتاج ثانوي إلى إرث حضاري حقيقي يعكس الهوية السعودية الثقافية ويبرز قيمتها أمام العالم. إنّ ترسيخ الصور الذهنية بشكل عام يمثل قوة ثقافية ناعمة، تستخدم حتى في السياق الدبلوماسي، وقد تجلّى ذلك بوضوح في تمسك سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووفده خلال زيارته الأخيرة لواشنطن بارتداء الثوب والبشت والشماغ والعقال السعودي، في رسالة واضحة عن الاعتزاز بالهوية والتفرّد. وكما نجحت القيادة -رعاها الله- في تقديم صورة مُشرّفة عن الهويّة السعودية على المستوى الدبلوماسي، فإن تسريع افتتاح متحف الفن الجديد في الدرعية وإنشاء مؤسسات متحفية فنية إضافية سيكون امتدادًا طبيعيًا لهذا النجاح، حيث سيجمع المتحف الفني تحت سقف واحد إبداعات الفنانين التشكيليين و»الفنون» اليدوية لإبراز مكانتها كفنّ متكامل وممارسة ثقافية متجذرة. ليصبح المتحف الفني مرجعًا حضاريًا يروي قصة المملكة البصرية للعالم أجمع، ويحفظ إرثها للأجيال القادمة في مؤسسات ثقافية تليق بعمق تاريخ المملكة العربية السعودية وطموح أبنائها.