كانت ليلة ممتعة وأنيسة في إحدى الليالي في ضيافة الأستاذ الأديب المثقف الواعي عبدالله الناصر -ختم الله له بالحسنى والعقبى الحميدة-، دعاني فيها إلى استراحته في تلك القمة من قمم مدينة الدرعية قبل عشرة أعوام تقريباً، تبادلنا فيها الأحاديث والأسمار في شتى فنون الثقافة والأدب والفكر وشؤون الحياة العامة، وكان هذا اللقاء الأول لي مع هذه الشخصية المتفردة بسمو أخلاقها وتنوع معارفها، والحقيقة إنني لما تحدثت معه كان يصغي إلي بكل أدب ورقي، ولا يمكن أن يقاطع حديثي وكلامي، مع أنني زرته لأنهل من أدبه وفكره، وتجاربه في الحياة، ومع هذا وذاك فهو يمنحك الفرصة أن تدلي برأيك، وتطرح ما عندك وهذا من خلقه الطيب. قضيت تلك الليلة في ضيافة كرم حديثه وعطاء أدبه، وليتني كررت الزيارة لأكسب الكثير من معين ثقافته، كنت قبل اللقاء به أقرأ بعضاً من مقالاته في صحيفة "الرياض" يوم الجمعة الصفحة الأخيرة، وسَمعت مكارم أخلاقه ومواقفه ذات الطابع المتسم بالمروءة والشهامة مع الطلاب المبتعثين في أمريكاوبريطانيا والدول الأخرى التي كان فيها ملحقاً ثقافياً، وقد كان -حفظه الله- مفتاحاً للخيرات ومغلاقاً لجميع المشاكل والضرر، وكم من عشرات، بل المئات وفق لحل مشاكل ومصاعب وعقبات تواجه هؤلاء الطلاب المبتعثين في حدود صلاحيته النظامية، ولعل البعض منهم يقرأ مقالتي هذا ويتذكر مواقفه معه، وحتى في وزارة التعليم العالي، هكذا كان ديدنه مع المراجعين، وما كسب إلاّ الدعاء له، فدعوة من صاحب حاجة قضاها له واستجاب لها الله ملك السموات والأرض لخير مما طلعت عليه الشمس، فضلاً من الأجور التي كتبها له الله -جل جلاله- لأنه كان في عون الطلاب، وهذا من سعادة شخصيتنا إنه وفق لخدمة طلاب العلم، فالكل يثني عليه ويطريه ويسبغ عليه كل معاني المديح، وسطورنا إشارات وعبارات موجزة عن حياة وسيرة هذا العملاق في خلقه وطيبته وثقافته. الدرعية التاريخية وُلد عبدالله بن محمد الناصر 1370ه، وقد نشأ في بيئة الدرعية التاريخية، التي تُعد من المناطق ذات الحضور التراثي في المملكة، وهو ما انعكس لاحقًا في تجربته الأدبية والشخصية، وهو من عائلة الناصر التي سكنت الدرعية، وكانت انتقلت إليها أيام الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- ثم انتقلت إلى حوطة بني تميم، ثم عادت مرة أخرى أيام الإمام تركي -رحمه الله-، كان جد عبدالله الناصر «حمد» ووالده «محمد بن حمد» من رجال ومؤيدي الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ولهم مواقف محمودة في هذا الشأن، أكمل شخصيتنا الدراسة الابتدائية بالدرعية، ثم التحق بالمعهد العلمي، ليتخرج بعد ذلك من كلية اللغة العربية، وليمارس العمل الوظيفي بعد ذلك بوزارة التعليم العالي والمجلة العربية في المرحلة نفسها، انتقل الناصر بعد ذلك إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث عمل مديراً للشؤون الثقافية بالمكتب الثقافي في هيوستن، كما كان أيضاً رئيساً لتحرير صحيفة «المبتعث»، ليعين بعد ذلك ملحقاً في الجزائر، وممثلاً للمملكة في جامعة الدول العربية لمعهد الترجمة العربي في لندن، وقد حضّر شخصيتنا للماجستير في جامعة هيوستن، كما سجّل للدكتوراه في جامعة لندن، إلاّ أنه لم يكمل الحصول على هذه الدرجة لظروف علمية تخص الإشراف على رسالة عبدالله، الذي كان قلمه يحمل رسالة مندرجة علمية أعلى وأشمل وأوسع وأعمق. كتابة صحفية وتميز عبدالله الناصر ككاتب أتقن فن الكتابة الصحفية، وسبر أغوارها المعرفية، وأدرك فضائها المعرفي، وألم بأساليب الغوص لاستخراج لآلئ الأفكار فيما يسطره في مقالاته الصحفية، فقد مارس الكتابة وهو في المرحلة الجامعية، حيث كان إبانها يوقع تحت اسم «غيلان بن سعود»، وهو اسم الشاعر ذي الرمة الذي كان شخصيتنا لا يزال معجباً به، الأمر الذي جعله يؤلف كتاب (ذو الرمة)، حيث لم يخرج الكتاب بعد على طور الطباعة، ومارس الناصر الكتابة الصحفية في عدد من الصحف منها المجلة العربية، ومجلة اليمامة والشرق الأوسط والحياة، والأهرام وغيرها من الصحف المحلية والعربية، فيما لا يزال يواصل هذه الرسالة الثقافية في سجل الثقافة ومضمار الأيام، ويُعَدّ شخصيتنا من الأسماء البارزة في المشهد الثقافي والإداري السعودي، جمع بين العمل الإداري المتميز والإبداع الأدبي العميق، فكان مثالًا للقيادي المثقف الذي يوظّف فكره وخبرته لخدمة الثقافة والمجتمع. يفيض بالعطاء وكان عبدالله الناصر إنسان يفيض قلبه بالعطاء والبذل والنبل، وهو من أولئك الذين يضحون بأغلى الأشياء من أجل سعادة وراحة الآخرين، وكانت أول مفاتيح شخصيته هي المروءة، بكل جوانبها المضيئة الباهرة، وتجلياتها البهية، في كل المحطات، لم يكن شخصيتنا إدارياً ناجحاً فحسب، ولم يكن قاصاً ولا روائياً ولا ناقداً ولا مؤرخاً ولا كاتباً صحفياً، لكنه تجاوز مفهوم هذه الفنون إلى درجة المهنة الثقافية عندما تكون رسالة إنسانية ووطنية وثقافية، عندما تكون ممارسة الكلمة وتوظيف المعرفة جنساً معرفياً ونسقاً ثقافياً مختلفاً جداً، فقد كان عطاء متميزاً بشهادة المرحلة الثقافية، وملهماً بوحي الحياة، ومثمراً بعبق العطاء، ومثابراً في الإنسانية، متوشحاً رسالة الأيام التي تأتي فوق كل المستويات المعرفية، والأجناس الأدبية، ففي فضاء الحياة، الحياة الإنسان، الحياة الرسالة، الحياة الثقافة، لا بد أن تجد قلم شخصيتنا قلماً حق له الاحتراف الثقافي، فقد تخرج إلى جانب مدرسته الأسرية من العديد من المدارس والجامعات في الحياة العلمية والعملية والتي كان من أسماها (جامعة الوطن) عندما يحمل المثقف وطنه علماً ويحمله علماً ويعيشه عشقاً، ويخالط تضاريسه انتماء ووفاء، هكذا نجد شخصيتنا القاص والروائي والناقد والمؤرخ والكاتب. مثقف نادر وكان عبدالله الناصر من المثقفين الندرة الذين لم تعرف أفكارهم الأبراج العاجية، من القلة الذين يسكنون بأفكارهم، وأقلامهم، وعلاقاتهم الضمائر الاجتماعية، فقد سخّر فكره وقلمه وعلمه وعمله خدمة للهم الإنساني، إلى جانب إخلاصه لوطنه، وعبر هذه الرحلة العلمية والمعرفية والثقافية، فقد صدر لشخصيتنا العديد من المؤلفات منها (من أحاديث القرى)، (سيرة نعل)، ومجموعة قصصية بعنوان (أشباح السراب)، ومجموعة أخرى بعنوان (حصار الثلج)، وأخرى بعنوان (الشجرة)، التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، ولشخصيتنا عدد آخر من المؤلفات منها (أنابيش ثقافية)، (ذو الرمة)، (الشاعر السينمائي)، (الرحيل) -مجموعة قصصية-، (أودية الشعر)، (العرق الأخضر) -رواية-، (العوجا) -رواية-، هذا إلى جانب العديد من الدراسات التي منها «الإنسانية في الشعر الجاهلي»، «العرب حضارة شعرية»، «صعاليك جدد»، «خطر الشعر العامي»، و»نصوص». مقال أسبوعي وتولى عبدالله الناصر عدة مناصب في خدمة التعليم في الخارج والداخل، على كافة المستويات والتي منها ملحق ثقافي في أمريكا، وأوروبا، وبعض العالم العربي، وفي شؤون التعليم العالي، ومع انشغاله العملي المتراكم إلاّ أن موهبة الكتابة وحبه للأدب وهواية الرسم بالكلمات تحاصره ويتحداها، فكتب العديد من الكتب المفيدة في مجال العلم والتعليم، خاصةً ما كان له مردوده على الوطن، كان شخصيتنا يبرز ويصافح أعين الناس عبر مقاله الأسبوعي في جريدة «الرياض» كل يوم جمعة مدة سنوات، والمتابع لشخصيتنا يرى أن الغالبية العظمى من المقالات تدور مباشرة حول التعليم والثقافة التعليمية وفوائدها للوطن والمواطنين، حتى لو كان الحديث عن قضية من العمومية تشمل الخارج والوطن، ولكنها في دائرة التعليم العربي ومدى التأثير الذي تبنيه الثقافة وتتقنه للرفع من شأن الأمة. حكايات وصور وفي كتاب عبدالله الناصر (من أحاديث القرى) يسرد الكثير مما مر عليه في طفولته ويفاعته، وعمّا ينبئ عن مدى التأثير المكاني للتكوين الفكري، وكيفية نموه بما يصوره من مشاهد عن التدريس من الكتاتيب إلى المدارس الرسمية، وعن المدرسين من أبناء الوطن، وعن الأساتذة الذين استقدمتهم وزارة المعارف من الدول العربية، فتطور التعليم تجده من خلال الحكايات جنباً إلى جنب مع الصور الاجتماعية التي كانت سائدة في القرية، وما طمسته التطورات الحديثة وما بقي بشكل في الروح، ولكن الواقع يصرف النظر للقادم، فالأساليب التعليمية والطرق اختلفت، والقرية أضحت مدينة، والبساتين والمعالجات القديمة في أساليب الزراعة اختفت، لهذا فتسجيل المواقف والذكريات فيه توجيه وترشيد يتيح للعقل أن يقارن ويتصور، وينعم بالحاضر الزاهر مع عدم فقدان صور الذاكرة التي تذهب مع حركة الزمن المتحرك، وقد وفق الناصر في الرسم بالقلم حيث أبدع أجمل اللوحات. شريك عملي وفي المجال الأدبي، امتاز عبدلله الناصر بتنوّع إنتاجه، روائيّات ومجموعات قصصية، ودراسات نقدية، وزاوية أسبوعية احتفظت بمتابعة جمهور القرّاء، ومن بين أعماله المنشورة ترد عناوين بارزة مثل (حصار الثلج) و(أحاديث القرى)، كما كان له حضور صحفي ثابت عبر زاويته «بالفصيح» في صحيفة الرياض، حيث تناول نصوصًا نقدية ولغوية وأفكارًا ثقافية تخاطب القارئ المهتمّ باللغة والأدب، وتمثّل هذه الإصدارات جانبًا من جهده في توثيق تجربة القصّ والبحث النقدي ضمن شرائح المجتمع السعودي وقضاياه، إسهامات شخصيتنا لم تقف عند حدود الكتابة أو التمثيل الثقافي؛ فقد ساهم في إنشاء وتحرير مجلات ثقافية مخصّصة للمغتربين والمبتعثين، وعمل على مشاريع تستهدف نشر الأدب العربي وترجمته، كما مثّل المملكة في مؤسسات عربية وأوروبية معنية بالترجمة والثقافة وهذا الدور المؤسسي جعله شريكًا عمليًا في نقل الثقافة السعودية إلى فضاءات أوسع، وبناء جسور تواصل معرفي بين المملكة وعالمها العربي والأجنبي. طابع جماهيري وتقديراً لهذا المسار حظي عبدالله الناصر بعدة احتفاءات وتكريمات محلية؛ ومن أمثلة الاحتفاءات الموثّقة إقامة حفل تكريم في قاعة مكسيم بحي الصحافة في الرياض -مايو 2008-، كما ذُكر اسمه في سياقات رسمية مرتبطة بعمله في مؤسسات حكومية وبرلمانية مثل مشاركاته في مجلس الشورى واللجان ذات الصلة، وهو ما يعكس احترام المؤسسات والمجتمع لجهوده الثقافية والإدارية، ومع ذلك، لا يوجد مجمُوع موثّق واحد على الإنترنت يجمع كل شهادات التكريم والوسامات التي نالها عبر مسيرته، وعلى المستوى الشخصي والأثر الأدبي، يتجلّى في نصوص شخصيتنا اهتمامان واضحان جذوره التراثية وتمعّنه البلاغي في اللغة العربية، فالسرد لديه يستدعي تفاصيل المكان والهوية، بينما تبرز كتاباته النقدية قدرةً على المزج بين المعرفة الأكاديمية والذائقة الأدبية، وهذا التزاوج بين الحسّ التراثي والممارسة الحديثة للكتابة منح نصوصه طابعًا جماهيريًا ونقديًا في آنٍ واحد، ومكّنها من الوصول إلى قرّاء متعددي الاهتمامات. عمل ومؤلفات وعمل عبدالله الناصر بدايةً في وزارة التعليم العالي وفي المجلة العربية، وعمل مديراً الشؤون الثقافية بالملحقية السعودية في هيوستن، وعمل ملحقاً ثقافياً في الجزائر، كذلك عمل ملحقاً ثقافياً في بريطانيا وإيرلندا إلى عام 2007، وعمل مشرفاً على الشؤون الثقافية ورئيساً لتحرير مجلة المبتعث في أمريكا، وعمل مستشاراً ثقافياً لوزير التعليم العالي ومشرفاً عاماً على الإدارة العامة لشؤون الملحقيات الثقافية بوزارة التعليم العالي السعودية، وعيّن عضواً في مجلس الشورى. ومن أعماله ومؤلفاته (أشباح السراب) قصص قصيرة صدرت 1998، و(حصار الثلج) قصص قصيرة صدرت 2002، و(بالفصيح: كتابات معاندة) صدر عام 2002، و(سيرة نعل) قصص صدرت 2004، كذلك (الشجرة) قصص، (ذو الرمة الشعر السينمائي)، (أحاديث في النقد والأدب)، (أميركا العقلية المسلحة) صدر 2008، إضافةً إلى (المنبر) قصص صدرت 2017، و(من أحاديث أم القرى) حكايات صدرت 2017، وله روايتان لم تطبعا بعد هما (العرق الأخضر) و (العوجا). ويمكن القول إن الناصر يُعدّ نموذجًا للشخصية الثقافية السعودية التي دمجت بين عمل مؤسسي فعال وإنتاج أدبي متميّز؛ شخصية تمثّلت بالانفتاح على العالم عبر العمل الدبلوماسي والثقافي، وفي الوقت نفسه بقيت مرتبطة بجذورها المحلية وتراثها، وإذا كانت المصادر المتاحة على الإنترنت قد أوفَت كثيرًا من جوانب مسيرته المهنية والأدبية، فإن بعض الفصول التفصيلية لا سيما سجلات التكريم الكاملة أو نسخ مقابلات مطبوعة قديمة قد تتطلّب الرجوع إلى أرشيفات مطبوعة أو سجلات المؤسسات الثقافية لاستكمالها توثيقًا. عبدالله بن محمد الناصر تنوّع إنتاجه ما بين روائيّات ودراسات نقدية وزاوية أسبوعية الشجرة» مجموعة قصصية للناصر «من أحاديث القرى» من مؤلفات الناصر إعداد- صلاح الزامل