أستاذ التاريخ روجر إيكيرش، قام بإجراء بحث مطول توصل فيه إلى أن الناس قبل الحداثة والثورة الصناعية الأولى كان نومهم مختلفًا، وعلى دفعتين، الأولى من 8 إلى 11 مساءً، والثانية من الواحدة صباحاً إلى الفجر، وخلالها يشغلون أوقاتهم بالمهام الأسرية، وبالنزهة الليلية، وبالاجتماعات القصيرة، أو في التعبد والصلاة، وهو زمن نتمنى استرجاع عاداته في النوم على الأقل.. قامت دراسة نشرت في 2018 بمراقبة أداء أسواق الأسهم ل16 دولة، شاركت كلها في نسخ مختلفة من نهائيات كأس العالم، ما بين عامي 1982 و2014، وحصلت عليه أو على مركز الوصيف، أو جاءت في المركزين الثالث والرابع، ووجدت أنه في الأيام التالية للمبارايات التي لعبت فيها منتخبات هذه الدول، تراجع أداء المستثمرين فيها في سوق الأسهم، ولم يكن في أحسن حالاته، وتسبب في خسارة عليهم، وأحالت ما سبق إلى السهر وقلة النوم في ليلة مشاهدتهم للمباراة، ولاحظت أن الخسارة تتضاعف، في بعض الأحيان، وتحديدا في الدول التي تكون سجلاتها أفضل في كرة القدم، ومن وجهة نظر أهل الاقتصاد، النوم لساعات أقل من المطلوب يجعل الناس محدودي الذكاء من الناحية المالية، وقدرتهم على إدارة الأموال والتعامل معها تتراجع، ويعود ذلك إلى ضعف الإدراك والتركيز لديهم، وهو رأي أتفق معه، لأن الشخص عندما لا ينام كفاية، لا يرى الصورة الكاملة للأشياء، أو يفسرها بطريقة خاطئة في معظم الأحيان، ويهتم بالمكافآت والمكاسب الإيجابية، على حساب السلبيات والخسائر المحتملة، وربما أدخل نفسه في مخاطر غير منطقية. الأميركي راندي غراندر، هو صاحب الرقم القياسي لأطول مدة بدون نوم، وقد استمر مستيقظا بشكل طبيعي ولم يأخذ منبهات، لمدة 11 يوما و25 دقيقة، أو ما يعادل 264 ساعة، ما بين أواخر ديسمبر 1963 وبدايات يناير 1964، وتابع حالته ويليام ديميت، أستاذ أبحاث النوم في جامعة ستانفورد الأميركية، وكتب في ملاحظاته أنه أثناء سهر غراندر المتواصل ظهرت عليه اضطرابات في المزاج، وفقدان مؤقت للذاكرة والانتباه، وتداخل وتلعثم في الكلام مصحوب بهلوسة، وكلها تأثيرات تم رصدها لحظياً، وبالتأكيد هناك تبعات حدثت له لاحقاً ولم ترصد. خبراء النوم متفقون على أن النوم الجيد ينشط عمل النظام الجلمفاوي في المخ، والأخير يستخدم السائل النخاعي لغسل الدماغ يومياً من الداخل، وتنظيفه من السموم والفضلات، وبأسلوب غسالة الصحون، ويقوم بإصلاح الخلايا التالفة، وإفراز هرمونات مهمة، أبرزها، الميلاتونين وهرمون النمو، والشخص إذا لم ينم جيداً لن يقوم الدماغ بذلك، وهذا سيؤدي إلى مشكلات كالنسيان والتوتر وضعف الذاكرة، وقد يصل لخطر الإصابة بالأمراض العصبية، وبأمراض القلب والسكتات الدماغية، واقترح إعادة النظر في قصيدة لعمر الخيام غنتها أم كلثوم، وبالأخص الجزيئة التي قيل فيها: إن النوم لا يطيل عمراً، ولا يقصر في الأعمار طول السهر، لأن فيها مغالطات تستدعي التصحيح، ولا علاقة لها بالحقائق العملية الثابتة، وفي المجتمعات الخليجية، وفي مقدمتها المجتمع السعودي، توجد أفكار سلبية عن النوم، محفوظة في التراث والقصائد الشعبية. الأصعب هو دخول الكافيين على الخط، لأن مفعوله يستمر ولا يزول لمدة تصل إلى سبع ساعات، ويعمل على بناء جدار يمنع دخول مادة الأدينوزين، المسؤولة عن تحفيز الناس على النوم، والسعوديون واليابانيون مدمنون عليه بأنواعه، ويعتبرون من أقل شعوب العالم نوماً، وهم لا ينامون أكثر من خمس ساعات بحد أقصى، وقدوتهم ربما رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر، التي كانت تفعل ذلك، وقيامها به لا يبرر تقليده، فالمتوسط العالمي للنوم يكون من سبع إلى تسع ساعات، والإصرار على خفص ساعاته سيؤدي إلى شيخوخة الدماغ، ويجعله أكبر من عمره الزمني، وسيحدث تدهوراً في الإدراك، وسيرفع احتمالية الإصابة بالخرف، ومعه الوفاة المبكرة. التطور التقني وانتشار الأجهزة الذكية في الألفية الجديدة، خفض من جودة ومدة النوم، وأوجد ما يعرف بتسويف النوم، وهذه العبارة بدأتها فلور كروس، أستاذة علم الاجتماع والسلوك الهولندية، وكانت ضمن دراسة نشرتها في 2014، وأرجعت فيها أسبابه إلى افتقاد الشخص للحد الأدنى من الانضباط الذاتي، الذي يمكنه من مقاومة رغباته الضارة، ومن أهمها، الانشغال بالجوال لطرد القلق والنوم، والمفارقة أن ما يحصل عليه هو ساعات نوم أقل. وفي رأيي؛ قراءة كتاب ورقي، تساعد على النوم بدرجة أكبر، بشرط إبعادها عن الشاشات وأشعتها الزرقاء، التي ينصح المختصون بإيقاف استعمالها قبل النوم بساعتين، وقد أكدت دراسة أجريت على 12 ألف مراهق، ونشرتها أستاذة علم النفس هولي سكوت، في 2019، أن استخدام السوشال ميديا لمدة طويلة، يؤثر بشكل مباشر على جودة النوم، وأنه كلما زاد استخدامها زادت احتمالات السهر، ومعها النوم المتأخر، ولساعات أقل مما يحتاجه الجسم. أستاذ التاريخ في جامعة فيرجينيا الأميركية، روجر إيكيرش، قام بإجراء بحث مطول في أرشيف المحاكم وأدب القرون الوسطى، وتوصل إلى أن الناس قبل الحداثة والثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر الميلادي، كان نومهم مختلفا تماما، وعلى دفعتين، الأولى من الثامنة إلى الحادية عشرة مساء، والثانية من الواحدة صباحاً إلى الفجر، وخلالها يشغلون أوقاتهم بالمهام الأسرية، وبالنزهة الليلية، وبالاجتماعات القصيرة مع الأقارب والأصحاب، أو يستثمرونها في التعبد والصلاة، وهو زمن نتمنى استرجاع عاداته في النوم على الأقل.