في مشهدٍ إنساني يعكس أسمى قيم الوفاء، استقبل عدد من أبناء إحدى قرى محافظة المخواة بمنطقة الباحة معلمهم السابق الأستاذ عوض القادم من جمهورية السودان الشقيقة، بعد مرور ما يقارب 50 عامًا على تدريسه لهم في المدرسة الابتدائية في تلك القرية، وذلك في نحو عام 1396ه. المشهد الذي حمل الكثير من المشاعر المختلطة بين الدهشة والامتنان أعاد للذاكرة سنوات طويلة من البدايات التعليمية التي كانت حجر الأساس لجيل كامل عرف قيمة العلم والمعلمين. ورغم أن عقودًا طويلة مرت على وجود الأستاذ عوض بينهم، إلا أن سكان القرية وطلابه السابقين لم ينسوا الأيام التي كان يقف فيها أمام السبورة، يكتب بحروفٍ بسيطة لكنها تركت أثرًا كبيرًا في حياتهم العلمية والعملية، حتى أصبح بعضهم اليوم مسؤولين وموظفين ومعلمين وآباء يروون لأبنائهم حكاية ذلك المعلم الذي جاء من بلاد بعيدة ليزرع فيهم حب العلم والانضباط واحترام الوقت. ومع وصوله إلى القرية في زيارته الحالية، فوجئ الأستاذ عوض بحفاوة استقبال غير متوقعة، حيث تجمع طلابه القدامى عند مدخل القرية مستقبِلين إياه بالعناق والترحيب والدعوات الطيبة، في مشهدٍ غلبت عليه دموع الفرح وذكريات زمنٍ مضى لكنه لم يغب عن القلوب. فقد بادر أبناء القرية إلى تنظيم وليمة عشاء تكريمًا له، حضرها جمع من الأهالي وعدد من طلابه الذين درسوا على يديه قبل خمسة عقود، كما قُدّمت له الهدايا التذكارية تقديرًا لعطائه وإخلاصه في تلك المرحلة المبكرة من التعليم في المنطقة. وقال عدد من طلابه السابقين: "الأستاذ عوض لم يكن مجرد معلّم يشرح الدروس، بل كان مربياً أثّر في سلوكنا وأخلاقنا كان يعاملنا كأبنائه يوجهنا ويحفّزنا ويزرع فينا الثقة بأنفسنا. لم ننسَ تلك الأيام، واليوم حان الوقت لرد جزء من الجميل له". وأضاف أحدهم: جاء من السودان في وقت كانت الإمكانيات بسيطة، الطرق غير معبدة، والخدمات محدودة، لكنه أدى عمله بإخلاص ومحبة، وكان قدوة لنا في الأخلاق قبل التعليم. لذلك كان استقبالنا له أقل ما يمكن أن نقدمه لمعبر عمّا نحمله له من تقدير. ولم يستطع الأستاذ عوض إخفاء مشاعره لحظة دخوله إلى المجلس المعد على شرفه، حيث عبّر عن سعادته بهذا الاستقبال قائلاً: "لم أكن أتوقع أن أعود بعد خمسين سنة لأجد هذا الحب الكبير. كنتم بالنسبة لي أبناء، وسعادتي أن أراكم اليوم رجالًا تفخر بهم بلادهم. أشكركم على هذا الوفاء الذي يعكس أصالة هذا المجتمع الكريم". وتعود قصة الأستاذ عوض إلى أواخر التسعينات الهجرية حين قدم إلى المملكة للعمل معلّمًا في مدرسة ابتدائية صغيرة تتوسط القرية. في ذلك الزمن كانت المدارس قليلة، وعدد المعلمين محدودًا، وكانت المملكة تمرّ بمرحلة بناء شاملة في مختلف المجالات، وكان التعليم حجر الأساس الذي اعتمدت عليه الدولة في تطوير الإنسان. ومع بدء انتشار المدارس في القرى والهجر، لعب المعلمون الوافدون -ومنهم عدد كبير من السودانيين والمصريين وغيرهم- دورًا مهمًا في سد احتياجات التعليم، ونقل خبراتهم وتجاربهم، وتكوين جيلٍ جديد يسهم في نهضة الوطن. وقد كان الأستاذ عوض واحدًا من أولئك الروّاد الذين ساهموا في مسيرة التعليم في المنطقة، إذ شهدت المدرسة التي عمل بها تطورًا ملحوظًا خلال سنوات عمله، وتميّز طلابه بالانضباط وحب التعلم، وهو ما كان يجعله يشعر بالرضا عن عمله آنذاك. ورغم مرور عقود، لا تزال ذكرياته مع طلابه محفورة في ذاكرته، كما أن أبناء المنطقة لم ينسوا له ما قدّمه لهم في مرحلة كانت تعتبر بداية التحول التعليمي في القرى التابعة لمحافظة المخواة. ولا يُعد احتفاء أبناء القرية بمعلمهم السابق حدثًا عابرًا، بل يأتي استمرارًا لنهجٍ أصيل لدى المجتمع السعودي الذي عُرف بالوفاء والاعتراف بالفضل لكل من ساهم في بناء الإنسان، حتى وإن كان ذلك ضمن مسؤوليات وظيفية أو مقابل أجر. فالقيمة ليست في العمل بقدر ما هي في الإخلاص وحسن التعامل وترك أثر طيب في نفوس الناس.ويؤكد الكثير من أبناء المنطقة أن هذه المبادرة تمثل نموذجًا يحتذى في تعزيز ثقافة الوفاء، وترسيخ مكانة المعلّم في المجتمع، وإرسال رسالة للأجيال الجديدة بأن المعلم—أياً كانت جنسيته—هو صاحب فضل يجب احترامه وتقديره. وقد اشتهر المجتمع السعودي على مرّ السنوات بأنه لا ينسى المعروف، وأن العلاقات الإنسانية فيه تتجاوز حدود الزمن. وحرص منظمو التكريم على أن يكون اللقاء شاملاً لكل من درسوا على يد الأستاذ عوض، حيث حضر بعضهم من محافظات ومدن أخرى في الباحة ومنطقة مكةالمكرمة، مؤكدين أن المشاركة في رد الجميل واجب إنساني قبل أن تكون مجرّد مناسبة اجتماعية. كما شهد الحفل كلمات مؤثرة تناولت ذكريات الطفولة والدروس الأولى واللحظات التي جمعته بهم على مقاعد الدراسة. وقدّم الأهالي وطلابه السابقون هدايا تذكارية له تعبيرًا عن الشكر والعرفان، شملت دروعًا رمزية وصورًا قديمة أعيدت طباعتها وتزيينها له، في لفتة أثارت مشاعر الحاضرين وأعادت مقاطع من ذاكرة الماضي الجميل. وفي نهاية الحفل، دعا الجميع إلى توثيق هذه المناسبات لأنها —كما يقول الكثير منهم— تجسّد "حكايات الوفاء" التي يقوم عليها المجتمع السعودي، وتمثّل دروسًا إنسانية للأجيال القادمة. فقد حمل اللقاء العديد من المعاني التي تؤكد أن العلاقات الإنسانية لا تُقاس بالوقت، وأن الأثر الطيب يبقى مهما تغيّرت الظروف وتعاقبت السنين.