يقدّم الكاتب والمخرج الأمريكي فينس غيليغان في مسلسل بلوريبوس عملاً دراميًا يقوم على تأمل التحوّل العميق في طبيعة الشعور الإنساني، انطلاقًا من حادثة تسرب أكواد عصبية طُوّرت داخل معمل أبحاث يعمل على إعادة تشكيل الدوائر الانفعالية في الدماغ. هذه الأكواد لا تُنتج حالة مزاجية عابرة، بل تعيد تنظيم الإحساس بحيث تختفي القدرة على الشعور بالحزن والقلق، وتستقر السعادة كحالة ثابتة لا تتغير. ومع انتشارها، تتشكل جماعة واسعة تشترك في شعور واحد يسود الحياة اليومية وتتوحّد على أساسه العلاقات وسلوك الأفراد. في هذا العالم الجديد، يصبح الشعور العام هو المرجع الوحيد. لا اختلافات داخلية، ولا تقلبات شخصية، ولا مساحات فردية مستقلة. كل ما كان يميز الإنسان من حساسية وتذبذب وانفعال متغير، يتحول إلى نبرة واحدة هادئة. وفي مواجهة هذا النموذج الشعوري الموحّد، يظهر أحد عشر شخصًا فقط حول العالم لم تتأثر أدمغتهم بهذه الأكواد. من بينهم كارول ستوركا. كارول كاتبة كانت تعيش حالة اضطراب داخلي قبل التحول، وحين ينقلب العالم من حولها، تبقى مشاعرها كما كانت. لا تلتحق بحالة السعادة الجماعية، ولا تنفصل عن علاقتها الذاتية بشعورها. يتحدد موقعها داخل العمل بوصفها حاملًا لوعي مستقل، لا يتطابق مع وعي الجماعة. ومع اتساع الظاهرة، تتحوّل إلى الجهة التي يقع عليها فعل الإنقاذ، لا باعتبارها شخصية تخوض مواجهة مباشرة، بل باعتبارها الحضور الأخير للفردانية في عالم أعاد تشكيل نفسه وفق نموذج شعوري واحد. بلوريبوس يقدم قراءة دقيقة لمسألة الحضور الذاتي داخل زمن تميل فيه المشاعر إلى أن تصبح موحدة ومشتركة. يتعامل العمل مع الفارق بين الشعور الذي يصدر من الداخل، والشعور الذي يتم تشكيله وفق معيار جماعي ثابت. في هذا السياق، لا تظهر كارول بصفتها منقذًا يتدخل من الخارج، بل بوصفها المساحة الأخيرة للشعور الفردي الذي لم يُعاد تشكيله. وجودها نفسه يمثل إمكانية الاستمرار، لا كفعل بطولي، بل كحفاظ على الجوهر الإنساني في شكله الأول؛ ذلك الذي يتغير ويتقلب ويحتمل التناقض. وهكذا ينتقل محور الإنقاذ من مستوى الحدث الخارجي إلى مستوى صون الشعور قبل اندماجه الكامل في الجماعة. يعتمد الإخراج على إبراز هذا الفارق من خلال الصورة. الجماعة تُصوَّر في لقطات واسعة مضاءة بنبرة موحدة، بينما تُصوَّر كارول في كادرات ضيقة تركز على الوجه والصوت والحركة البسيطة. لا يعلن المسلسل موقفًا صريحًا، بل يدع المشاهد يختبر الفرق بين عالم يعيش شعورًا واحدًا، وفرد يحتفظ بحساسيته الخاصة. بهذا البناء، يُقدّم العمل تصورًا عن مستقبل الإنسان حين تتحول المشاعر إلى صيغة جاهزة. ويضع قيمة الشعور الفردي بوصفه آخر ما يمكن أن يحمي الإنسان من الذوبان في ما هو أوسع منه.