الجدل في أصله وسيلة لبلوغ الحقيقة لا لإثبات التفوق، كما كان يُمارس في الحلقات العلمية والمجالس الاجتماعية والفكرية التي ترجو الوصول إلى أعمق نقاط الفهم. نشأ علما منذ القدم يعلّم التفكير المنطقي وضبط الحجة واحترام المخالف، وغايته أن يفتح باب الفهم لا أن يغلقه بالانفعال. لكن صورته في حاضرنا تبدلت حتى صار كثير مما نراه على الشاشات والمنصّات والمجالس أقرب إلى الصراع منه إلى الحوار. في القنوات الحوارية والساحات العامة، يُقدَّم النقاش كأنه مشهد خصام لا بحث عن الحقيقة. العبارات مشحونة بالعاطفة، والانفعال يغلب على التحليل. يظهر المتحدث كمن يدافع عن ذاته لا عن فكرته، وكأن الحكم قد صدر قبل اكتمال الدليل. هكذا يفقد الجدل وظيفته في الكشف والتقويم، ويتحول إلى استعراض أكثر مما يُنصف الحقيقة. ويبرز ذلك في حالات الاستقطاب الحاد التي تجعل المتحاورين يكتفون بترديد شعاراتهم دون إنصات، فينتهي النقاش بزيادة الهوة بدلا من تقريب وجهات النظر. وفي شبكات التواصل، تُطلَق الآراء على عجل وتُرد بعجلة أكبر. تُحاكم النيات بدل الأفكار، ويُختصر النقاش في جملة مقتطعة أو مقطع قصير. المجتمع الافتراضي الذي كان يمكن أن يكون مساحة للتنوّع أصبح بيئة خصبة للجدال الهادم، حيث يسود الصوت الأعلى لا الحجة الأقوى. المنصات التي وُجِدت للحوار تحولت في كثير من الأحيان إلى ساحات اتهام، كما يظهر في «حروب الهاشتاغات والمقاطع الهادمة» التي تختزل القضايا في عبارات ساخنة، وتتيح للمجهولين شنّ حملات تشهير وبث إشاعات وأكاذيب بلا ضمير. ولا يقتصر الأمر على الفضاء العام، فحتى الأعمال الدرامية ترسخ صورة الجدال بوصفه معركة، يغيب فيها المنطق لصالح الانفعال، ويُقاس النصر بحدة الرد لا بقوة الحجة. بهذا النموذج يتعلم الجيل الجديد أن النقاش صراع للغلبة لا تمرين على التفكير. والمشهد ذاته يتكرر في بعض البيئات الاجتماعية والعائلية، حيث تُدار الخلافات بمنطق الجدال لا الجدل الهادف، فيتحول التفاهم من وسيلة للترميم إلى سبب للشقاق. ويرى المختصون في تحليل الخطاب أن ضعف أدوات الجدل في المجال العام أحد أبرز أسباب ارتفاع نبرة الخلاف. فحين يغيب الفهم المنهجي للحجة والدليل، يتحول النقاش إلى مواجهة شخصية. الجدل علم له أدوات محددة: تحديد محل النزاع، وتمييز الدليل عن الرأي، وضبط الانفعال قبل الرد. ومن يجهلها يُفسد المعنى وهو يظن أنه يحسنه. فالجدل الحقيقي والهادف هو مهارة لغوية وتربية عقلية وأخلاقية تُعلّم الإنسان أن الإنصاف أرفع من الانتصار، وأن الحقيقة لا تحتاج إلى صراخ كي تُرى. من الجدل الهادف إلى الجدال الهادم مسافة لا تُقطع إلا بالوعي بأن الكلمة مسؤولية، وأن الحجة لا تكون قوية إلا بقدر ما تكون عادلة. وحين نعيد للجدل مقاصده الأولى نستعيد معه قيمة التفاهم ذاته، فيصبح وسيلة للفهم لا سلاحا للغلبة. وما أحوجنا اليوم إلى أن نصغي قبل أن نرد؛ فبقدر ما يسمو أسلوب النقاش ترتقي المجتمعات في تفكيرها وأخلاقها. ويمكن بلوغ ذلك بتشجيع مهارات الاستماع الفعّال، وإعادة صياغة الخلافات في صورة أسئلة لا اتهامات، وجعل أدبيات الحوار جزءا من التربية والتعليم منذ الصغر، حتى يصبح الحديث سبيلاً إلى التقارب لا إلى القطيعة، وإلى الحقيقة لا إلى الصخب والشقاق.