في زمنٍ تتكاثر فيه المنصّات وتتناسل الأقلام كما تتناسل النسخ، تواجه الكتابة أزمة وجود حقيقية، أزمة اسمها الصدق. فالكتابة التي كانت يومًا صوتًا صافيًا للروح، لم تعد تتنفس إلا نادرًا؛ أصبح الكثير من النصوص أشبه بمرآة بلا انعكاس، تنعكس فيها الصور، لكنها لا تُظهر العمق. الصدق في الكتابة ليس شعارًا أخلاقيًا فحسب، بل هو جوهر الفعل الإبداعي ذاته. الكلمة حين تُكتب من أعماق صادقة، تهزّ القلوب، حتى لو كانت بسيطة، بينما الكلمات المصطنعة، مهما كانت قوية ، تخفت سريعًا، وكأنها لم تُكتب أبدًا. لقد تغيّر وجه الكتابة حين تغيّرت نوايا الكتّاب؛ صار البعض يكتب ليُرى، لا ليعبر عمّا يراه في داخله. تحوّلت الكتابة من حالة وجدانية صادقة إلى وسيلة تزيين للذات، ومن بحث عن المعنى إلى مطاردة للضوء الزائف والشهرة الفارغة. أزمة الصدق ليست مجرد غياب للحقيقة، بل غياب الإحساس بها. حين يفقد الكاتب صدقه، يصبح نصّه مثل لوحة جميلة مرسومة على جدار مائل؛ قد تُدهشك ألوانها، لكنها لا تصمد أمام الريح، ولا تترك أثرًا في النفس. الصدق هو ما يجعل القارئ يشعر بأن الكاتب يكتب من جرحٍ مفتوح، لا من قواميس جاهزة، ومن تجربة عاشها لا من نصوص قرأها، ومن إنسان يتنفس لا من كاتب يتكلّف. وأخطر ما أصاب الكتابة الحديثة أن كثيرًا من النصوص تُكتب بعقلٍ يسعى للإعجاب، لا بقلبٍ يريد البوح. نقرأ كثيرًا، لكن لا نسمع نبضًا، نتأمل كلماتٍ كثيرة، لكن لا نجد وراءها إنسانًا حيًا، شعورًا حقيقيًا، أو إحساسًا يُحرّكنا. استبدلنا حرارة الصدق ببرودة الإتقان، ووهج العفوية، وغاب السؤال القديم والجوهر: هل نكتب لنُقال أم لنُسمع؟ الكاتب الصادق يعرف أن الكلمة التي خرجت من قلبه هي ما يصنع الفارق، وأن النص الذي ينبع من تجربة حقيقية، لا من تقليد أو ادّعاء، هو الذي يترك أثرًا حيًا في روح القارئ. إن الكلمة الصادقة تملك سحرًا خفيًا لا يُصنع بالبلاغة ولا يُنقّح بالصنعة، فالنص الصادق لا يُقاس بعدد القراء، بل بعدد الذين تغيّر فيهم شيء بعد قراءته، بعدد القلوب التي شعرت أنها لم تعد وحيدة، بعدد العقول التي تلقت سؤالًا جديدًا أو لمست معنى جديدًا. ورغم هذا، يبقى الصادق نادرًا، لكنه لا يُمحى. الكلمة التي خرجت من قلبٍ صادق، تمضي في القلوب كتيارٍ دافئ لا يشيخ، وتظل شاهدة على أن الأدب ما زال بخير ما دام هناك من يكتب بصدق، حتى في زمن امتلأ بالتمثيل والمظاهر الزائفة. فالصدق في الكتابة ليس خيارًا، بل رسالة إنسانية، شرف وواجب، وسبيل لحفظ الأدب حيًا ولامعًا في قلب كل قارئ يتوق للحقيقة، هو رسالة تقول للجميع نحن معكم ونشعر بكم ونعبر عنكم.