في آخر كُتبه «Islam: the covenants fulfilled» يقدّم الفيلسوف الماليزي «سيد محمد نقيب العطّاس» رؤيته للإنسان، من خلال حوار، بين فئات ألِفت إنتاجه المكتوب، وعموم محاضراته. ليطرح تعريفاً للإنسان بوصفه كياناً ضامّاً لما ميّز به قديماً وحديثا، حيث ميّز الإنسان تارة بمكوّنه الروحي (بأي وصف عُرّف به)، وميّز تارة بمكوّنه المادي (خصوصاً في الفلسفات الماديّة)، وتارة بالأمرين معاً، في استبطان للتفرقة بين مكوّناته. فيقدّم العطّاس أطروحة تستبعد هذا الفصل، ولو كان اعتبارياً في بداياته؛ إلا أنه تغلغل، خصوصاً مع متفلسفة الإسلام. ينطلق العطّاس أوّلا من «المواثيق»، وهي التي عنون بها كتابه للإشارة إلى ثلاثة مواثيق، لم تجد الوفاء بها كلها إلا في الإسلام، وهي: ميثاق الإشهاد، وميثاق جميع الأنبياء عليهم السلام، وميثاق النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ الذي جمع بين الميثاقين السالفين، ومن هذا المنطلق يميّز دين الإسلام بمسمّاه الخاص عن الإسلام عامة، فالإسلام الخاص هو الذي وفّى بهذه المواثيق، ومن ثمّ لا بدّ من تمييز دلالة الإسلام دائماً عند من يعدّ كل الأمم مسلمة، وبالتبع يسلب من الأمة المحمدية هذا الامتياز. فانطلق مع أول هذه المواثيق ليميّز الإنسان في كل أطوار هذه المواثيق الثلاثة، وأساسه «ميثاق الإشهاد»؛ مقيماً كتابه على فكرة أساسية هي «الإنسان»، من حيث «مكوّناته» (الروح - المادة)، ومن حيث «كيانه». وطرح العطّاس هو «التعريف بالكيان»؛ فالكيان في أصله وجود ازدواج، متخذاً مثال «الإسفنجة المشبّعة بالماء» طريقة لتقديم هذه الدلالة الكيانية، فجانب الإنسان الروحي كالماء المتغلغل في الإسفنجة؛ التي هي الجانب المادي، وهذا الازدواج هو المسمّى ب «الإنسان» عنده، ويمكن أن يقال عنه «أنا». لينطلق نحو كيفية تشكّل هذا الكيان، وتجاوز تعريفه بمكوناته، التي هي مسلك نحو الكيان، فلا يسمّى إنساناً إلا بتشكّل هذا الكيان. فاستند على آيات الأنعام، والزمر، والمؤمنون (جمعاً بين أطوار الروح والبدن)، إضافة لما استبطنه من أفكار تراثية تأثر بها، خصوصاً عند الغزاليّ، وكذا دلالة بعض الأحاديث. كما أشار إلى تعريف الإنسان الشائع ب»الناطقية»، لإعادة تأصيله لا نقده، فأشار لتعريف الإنسان ب»جنس الحيوانية» بمعنى رده إلى الحياة، مع التنبيه على أهميّة المقابلة الأولى بين دلالتي «الإنسان» و»الوحش»، لا المقابلة الخاطئة له بالحيوان (البهيمة). ومن خلال آية الإشهاد؛ عرّف الحق سبحانه وتعالى الإنسان بنفسه «ألست بربكم»، ومن هذه الآية تُمتح معانٍ عدةّ، هي المؤسسات الأوليّة: فالنطق آت من القوة الروحية (تشمل عند العطاس النفس)، وبهذه القوة ميّز الإنسانُ الحقَّ تبارك وتعالى، وعرفه، وعرف المباينة بينه وبين خلقه. ويمكن أن نضيف إلى كلامه: هذه الأرواح ميّزت تفاوتها أيضاً، وفردانية كل واحد من ذريّة آدم في تلك اللحظة. وفي لحظة الإشهاد توّجت هذه القوة الروحية بالقوّة الإدراكيّة التي بها المعرفة، فهذه القوّة الروحيّة سمّيت فيما بعد «النطق»، وسميّت الروح حيناً ب»النفس الناطقة». ويمكن القول: النفس الناطقة هي نفس الميثاق الأوّل (ميثاق الإشهاد)، فبالإدراك والبيان صار النطق؛ الجامع بين هاتين القوتين، وقد علّم الله سبحانه وتعالى الإنسان «البيان»؛ لإقامة هذه القوة واستعمالها استعمالاً وفق «العدل» (وللعدل دلالة عند العطّاس؛ تستحق الوقوف وفق فلسفته في دلالة «الأدب»). فالاستعمال العادل للقوة الروحية «النطق» ينقل الإنسان للمرحلة الثالثة وهي: تسمية الاستعمال الرشيد لهذه القوة ب «العقل»، مستصحباً الدلالة اللغوية للعقل من جمع وربط ونحو ذلك، وهذا يوحي بمعنى العقل الدال على نشاط جمع المعارف في نظام ربط، فالعقل نشاط فعلي لعنصر أصله روحاني. أما القوة المادية وأطوار الخلق فمن سورة المؤمنون. وباجتماع هذين الكيانين يتكوّن الكيان الثالث الذي يطلق عليه «إنسان» مع اللحظة الفارقة «نفخ الروح» في الجنين. وظاهر أنّ العطّاس مثل غيره من المفكرين المسلمين، يعيد تشكيل ما في التراث مع ما استجدّ لديه، غير أنّه يتخذ من الدلالات العربيّة مراحل، لكل دلالة مرحلة؛ إن في مرحلة الروح، أو الخلق الجنيني، أو تحولات القوة الإدراكية من إدراك وبيان إلى نطق إلى عقل. وهذا الكيان الثالث هو الذي يُمتحن، لذا زوّد بجميع الملكات والقوى، وطرح في عالم المحسوسات والمعقولات، بين رغبات وشهوات، لأداء مهمته ووظيفته، مع نظام يحفظ له هذه الملكات؛ لاستعمالها وفق ما يجب.