مركز الحياة الفطرية: إدراج «الثقوب الزرقاء» و«رأس حاطبة» ضمن قائمة المحميات الوطنية يعزز الريادة السعودية في الحماية البيئية    البيئة تحتفي بيوم الغذاء العضوي بإنتاج يتجاوز 98 ألف طن    رونالدو: «أنا سعودي»... ومونديال 2034 سيكون الأجمل    انطلاق منتدى TOURISE في الرياض لرسم ملامح مستقبل قطاع السياحة العالمي    أمير تبوك يطّلع على التقرير السنوي لأعمال فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر    الطائرة المجنحة.. أحدث وسائل المراقبة الأمنية للحجاج    وزير الحج والعمرة يلتقي بأكثر من 100 وزير ومفتي ورئيس مكتب شؤون الحج ويحثهم على استكمال إجراءات التعاقد قبل 15 رجب    منصة إحسان تدعم جمعية الإعاقة السمعية بجازان بمشروع توفير الأدوية للمرضى المتعففين    مجلس الوزراء: الموافقة على نظام حماية المؤشرات الجغرافية    القيادة تعزي رئيسة جمهورية سورينام في وفاة الرئيس الأسبق رونالد فينيتيان    الهيئة السعودية للتخصصات الصحية تعتمد برنامج جراحة الفم والوجه والفكين في تجمع تبوك الصحي    المنتخب السعودي على مشارف التأهل في مونديال الناشئين    بيان في الشباب بشأن أزمة الحارس بوشان وقرار الفيفا    المشهد السياسي العراقي في ضوء الانتخابات البرلمانية الجديدة    المملكة تشارك في مؤتمر الإنتربول العالمي لمكافحة الفساد واسترداد الأصول    أمانة الشرقية تحصد المركز الأول في فئة أفضل مشروع اجتماعي    أمير الشرقية يكرم مدارس المنطقة بدرع التميز والاعتماد المدرسي    القيادة تهنئ رئيس جمهورية بولندا بذكرى إعلان الجمهورية لبلاده    مجموعة شركات SAMI تحصد ثلاث جوائز للتميز في توطين الصناعات العسكرية    ب "رؤية ما لا يُرى".. مستشفى الملك عبدالله ببيشة يُفعّل اليوم العالمي للأشعة    الفقد والادعاء.. حين يساء فهم معنى القوة    قصيدة اليقين    أنت أيضا تحتاج إلى تحديث    هجوم روسي بمسيرات يوقع قتيلا شرق أوكرانيا    لماذا دخل الشرع البيت الأبيض من الباب الجانبي؟لأنها زيارة خاصة لا رسمية    سعر برميل النفط ينخفض إلى 63.93 دولار    «الشورى» يدعو مركز المناطق الاقتصادية في الرياض لاستكمال البناء المؤسسي والخطة الإستراتيجية    ضبط 21647 مخالفاً للإقامة والعمل وأمن الحدود    «التواصل الحضاري» ينظّم ملتقى التسامح    وسط ضغوط على المرحلة الثانية من اتفاق غزة.. الاحتلال يمنع خروج المحاصرين في أنفاق رفح    علامات تكشف مقاطع الفيديو المولدة بال AI    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء الخميس    تحت رعاية ولي العهد.. تنظيم المؤتمر العدلي الدولي الثاني بالرياض    لجان الكرة وقرارات غائبة أو متأخرة    شلوتربيك أولوية لبرشلونة في يناير    النصر يتصدر بالمحلي    يوثق التحولات التاريخية والحضارية للمشاعر.. «الدارة» تطلق ملتقى تاريخ الحج والحرمين    وعكة صحية تدخل محمد صبحي المستشفى    1.7 مليون دولار تعويضاً على تنمر النظارات    أمريكي يبحر 95 كيلومتراً داخل يقطينة    يتباهون بما لا يملكون    تقديراً لجهودها في إبراز خدمات المملكة لضيوف الرحمن.. نائب أمير مكة يكرم وزارة الإعلام بمؤتمر الحج    الديوان الملكي: وفاة وفاء بنت بندر    موجز    ممرض ألماني يخدر المرضى ليهنأ بليلة هادئة    موانع حمل للرجال (1)!!؟    الأخضر تحت 19 عاماً يدشن تدريباته في معسكر الأحساء استعداداً لكأس آسيا    خديعة القيمة المعنوية    أزمة الأطباء الإداريين    "مسام" ينزع (1.044) لغمًا من الأراضي اليمنية خلال أسبوع    البنيان يرعى «التعليم المنافس» في «الملك سعود»    «الرياض الصحي»: البحث العلمي شريكٌ محوري في التحول الصحي    رئيس جامعة جازان يطلق منصة "ركز" للاستثمار المعرفي    القصيم: فرع الشؤون الإسلامية يُتعامل مع 1169 بلاغًا خلال الربع الثالث    رجال أمن الحرمين قصص نجاح تروى للتاريخ    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. منح رئيس «الأركان» الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. رئيس هيئة الأركان العامة يُقلِّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    فهد بن سلطان: هيئة كبار العلماء لها جهود علمية ودعوية في بيان وسطية الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالقدوس الأنصاري.. الأدب والتاريخ
نشر في الرياض يوم 07 - 11 - 2025

عبدالقدوس الأنصاري، أستاذ وأديب وصحفي مخضرم، وهو عالم محقق ومدقق، وأثري ومؤرخ، ولغوي مجمعي، أسّس مجلة المنهل، ويُعد أحد أبرز رواد الرواية السعودية وكانت روايته (التوأمان) الصادرة 1349ه أول عمل روائي يصدر في المملكة، في حياته الشخصية لم يكن خالياً من التحديات، فقد كان التوفيق بين الوظيفة وطموحه الأدبي والتراثي صعباً، والتنقل بين المدن والتوازن بين الصنعة والعشق للفكر يتطلبان مثابرة وصبراً، ومع ذلك لم يتهرب من مهمته فظلّ يكتب، يحقق، يطبع، يوزع، يسافر في الحجاز يدرس المواقع القديمة، يكتب مقالات، يحاضر في الندوات، ينقّب في الأسفار والوثائق.
وُلد عبدالقدوس الأنصاري 1324ه /1906م في أحد أزقة مدينة المدينة المنورة التي تلفّها ريحان الروحانية وأريج التاريخ، وفجع بوفاة والده وهو في سنٍّّ لا يتجاوز السادسة، فتكفّل برعايته عمّه الشيخ محمد الطيب الأنصاري، الذي لم يكتفِ بأن يكون ولياً أو قائدًا، بل صار له معلمًا وموجّهًا، بدأ عبدالقدوس الدراسة وعمره لم يتجاوز خمسة أعوام، وفيها حفظ القرآن الكريم، وأعقبه بحفظ المتون في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة، وفي 1341ه التحق بمدرسة العلوم الشرعية في المدينة المنورة فنال شهادتها العالية 1346ه، وقد أنشأها أحمد الفيض آبادي لتيسير التعليم الديني والعربي، ثم عُيّن الشيخ محمد الطيب الأنصاري رئيساً لمدرسيها، فالتحق بها شخصيتنا، وتخرج فيها 1346ه، وكان عبدالقدوس قد حضر الاختبار العمومي الذي أجراه لطلاب المدرسة رئيس ديوان إمارة المدينة المنورة الشيخ إسماعيل حفظي، وكان أن أعجب بأدائه، فأشار على وكيل الإمارة بأن يلحقه بالديوان، فالتحق حينئذ بإمارة المدينة المنورة موظفاً صغيراً بها، كان ذلك في غرة شهر رمضان 1346ه، وبعد تخرجه من مدرسة العلوم الشرعية رغب إليه السيد أحمد الفيض آبادي مؤسس وصاحب المدرسة أن يكون أستاذا للأدب العربي فيها، فوافق عبدالقدوس الأنصاري وظل أستاذاً فيها لأكثر من 12 عاماً.
رئاسة تحرير
ومكث عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- في الديوان الملكي يترقى في وظائفه حتى 1359ه، حيث نقل بعد ذلك إلى مكة المكرمة في وظيفة رئاسة تحرير صحيفة أم القرى، وتم ذلك بقرار من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- موجهاً إلى إمارة المدينة المنورة، واستمر في وظيفته تلك حتى 1361 ه، حيث صدر أمر الأمير فيصل بن عبد العزيز -الملك فيما بعد- بنقل الأنصاري ليعمل في ديوانه في جدة، وبقي فيه حتى 1386ه حيث تفرغ بعد ذلك تفرغاً كاملاً لمجلته المنهل التي أنشأها 1355ه الموافق 1937م، وظل يصدرها باستمرار رغم كل تلك المشاغل والوظائف والمهام، ورغم كل تلك التنقلات من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة إلى جدة.
متعدد المواهب
في زوايا حياة عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- التي لم يعرفها الكثيرون، كان رجلاً متعدد المواهب، يتجاوز كونه مؤرخًا وأديباً، كان يملك خطاً عربياً بديعًا، يكتب مخطوطاته بخط يفيض جمالًا وأناقة، حتى أن النصوص التي وضعها كانت تحفًا فنية تشهد لها بين أهل العلم، وبالرغم من عمق جذوره في التراث الإسلامي والعربي، إلاّ أن الأنصاري كان قارئًا نهمًا للكتب الغربية، يأخذ من هناك أساليب جديدة في البحث والكتابة، دون أن يفقد أصالته، كان يؤمن أن العلم لا يعرف حدودًا، لذا دمج بين ثقافات متعددة ليصنع منهجًا فريدًا في أعماله، كان يحب الموسيقى الحجازية، يستمع إلى المقامات ويغوص في ألحانها، يعتقد أن هذه النغمات هي نبض المدينة وروحها، وقد نثر هذا الحب في مقالاته التي تحدثت عن ثقافة الحجاز العميقة.
حياة بسيطة
وعلى الرغم من شهرة عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- عاش حياة بسيطة جدًا مع عائلته في المدينة المنورة، متواضعًا بعيدًا عن مظاهر الثراء، وهو ما جعله قريباً من الناس ويكسبه حبهم واحترامهم، وكان يتبادل الرسائل والأفكار مع كبار الأدباء العرب من مصر وسوريا ولبنان، حيث كان يستقي من تجاربهم الأدبية ويشاركهم حكمته، فتحولت مراسلاته إلى جسور تواصل ثقافي بين الحجاز والعالم العربي، وأيضاً كان يعشق علم النبات، يمضي وقتاً في دراسة النباتات المحلية، يدوّن ملاحظاته عن خصائصها واستخداماتها الشعبية، كأنه يريد حفظ ليس فقط تاريخ المكان، بل وروحه الطبيعية، كان شخصيتنا لا يكتفي بجمع المعلومات السطحية، بل كان يستغرق في التفاصيل الصغيرة التي تهرب من أعين الكثيرين، في زياراته المتكررة لآثار المدينة المنورة، كان يصطحب معه دفتراً صغيراً وقلمًا، ويسجل ملاحظات دقيقة عن النقوش، والزخارف، وحتى نوعية الأحجار التي بنيت بها المباني القديمة، كأنه يجمع قطعًا من لغز الزمن، وفي إحدى زياراته لأحد المقابر القديمة، وقف متأملاً كتابات مدفونة تحت الغبار، ولم يكتف بقراءتها، بل بحث عن قصص أصحابها في الألسنة الشفاهية والكتب النادرة، ليعيد بناء حياة كاملة لشخصيات منسية.
مرشد وملهم
لم يكن عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- مجرد مؤرخ جامد، بل كان يعشق سرد القصص، وكانت له قدرة على تحويل الجغرافيا إلى مشاهد حية ينبض فيها التاريخ، وكأن القارئ يسير معه في أزقة المدينة القديمة، يلمس جدرانها ويشم عبير الماضي، وعلى الصعيد الشخصي، كان معروفاً بكرمه وحسن أخلاقه، وكان في مجلسه دائمًا ما يستمع للناس بإنصاف، يعين الباحثين ويشجع الشباب على الاهتمام بالتراث، حتى صار بالنسبة للكثيرين مرشدًا وملهمًا، كما كان محباً للهدوء والطبيعة، يفضل الجلوس تحت ظلال النخيل في الصحراء ليستجمع أفكاره، ويكتب مقالاته بعناية متناهية، لا يرضى أن ينشر إلا ما يشكل قيمة حقيقية للأمة.
زيارة الرياض
وزار عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- الرياض 1366ه، وكانت الزيارة الأولى له حينما كانت العاصمة يحوطها سور ولها أبواب ثمانية تفتح بعد صلاة الفجر وتغلق بعد صلاة العشاء، وكان الهدف من هذه الزيارة الإحصاء لعدد سكان مدينة الرياض وإصدار الهويات -التابعية-، ولعله أول إحصاء لسكان مدينة الرياض، وأول تابعيات تصدر في هذه المدينة، وقد وصف الأنصاري الرياض قبل 80 عاماً بأنها ذات شوارع وممرات ضيقة، وشاهد الصفاة وبجوارها المحلات التجارية التي يباع فيها «البشوت» والملابس، وكانت أرض الصفاة تراب، ويذكر أن البناء كان يعتمد بالطين حيث يصبه المعلمون في قوالب كبيرة فإذا يبس قاموا بالبناء في سرعة خاطفة ثم تطلى الجدر من داخله بالجص الأبيض من الداخل، وكان مقر مكتب الإحصاء والإدارة هي دار الأشعة، وفيه تمنح التابعيات لأهالي مدينة الرياض، وبهذا يكون شخصيتنا رائد في المهمة الوطنية، مع ريادته في الصحافة، وفي التاريخ، وفي كتابة أول قصة سعودية عام 1349ه بعنوان (التوأمان)، وقصته (مرهم النسيان)، وريادته في إصدار أول كتاب عن آثار المدينة المنورة، أمّا رحلته الثانية لمدينة الرياض فكانت 1387ه، زار فيها الكثير من معالم مدينة الرياض، والتقى بالأدباء والأعيان، ثم زار مدينة الخرج وشاهد الفرق الكبير بين الزيارتين من تقدم في العمران، والتحديث والتطور، وهي حقاً رحلة ممتعة مفيدة كتبت بأسلوب سلس ومسبوك من شخصيتنا العالم الأديب اللغوي.
مؤلفات وكُتب
ولعبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- مؤلفات منها؛ (التوأمان) رواية، وصدرت 1349ه، و (آثار المدينة المنورة) وصدر 1353ه، و(إصلاحات في لغة الكتابة والأدب)، و(الأنصاريات) مجموعة شعرية صدرت 1384ه، و(تاريخ مدينة جدة)، و(تاريخ العين العزيزية بجدة ومصادر المياه في المملكة العربية السعودية)، و(مع شاعر العرب عبدالمحسن الكاظمي)، وكذلك (الملك عبدالعزيز في مرآة الشعر)، و(مع ابن جبير في رحلته)، و(التحقيقات المعدة بحتمية ضم جيم جدة)، و(رحلات إلى مصر، والبحرين، والكويت، ولبنان، والرياض، والجار، والباحة)، و(رحلة في كيان التراث)، و(مستقبل أبحر)، إضافةً إلى (النخيل والتمور في بلاد العرب)، (كيف كانت نشأة أدبنا الحديث)، و(الكتاب الفضي للعين العزيزية)، و(بناة العلم في الحجاز الحديث)، و(بين التاريخ والآثار)، و(بني سليم)، و(ديوان الأنصاريات).
تشجيع ودعم
وكانت مجلة «المنهل» حلم عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- الذي تحقق، وتعود حكاية جريان منهل أدبنا العربي السعودي في الربع الثاني من الخمسينيات الميلادية، عندما صرح شخصيتنا لأصدقائه عن حلمه بنشر الثقافة والعلوم الأدبية والتاريخية والأثرية عبر مجلة ثقافية، فوجد منهم التشجيع والدعم، فرفع طلباً بذلك إلى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الذي وافق على طلبه، فصدر صك شرعي من المحكمة بإنشاء أول مجلة سعودية باسم «المنهل»، وبدأ صدورها في ذو الحجة 1355ه الموافق 1937م بالمدينة المنورة، وقد كتب الأنصاري في افتتاحية عددها الأول «أمّا بعد، فإن من دلائل نجاح المنهل أن تكون أول مجلة أدبية ثقافية من نوعها تصدر بالحجاز في عهد الملك عبدالعزيز، الذي جعل مبدأه الحميد أن يأخذ من أسباب المدنية الحديثة كل جديد ونافع وصالح لأمته، مع الاحتفاظ بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف والاستضاءة بهديه القويم».
غالي ونفيس
ومرت المنهل بمراحل ومنعطفات عديدة وتحديات كادت أن توقفها عن الصدور، ومن تلك المراحل انتقالها إلى مكة المكرمة ثم إلى جدة، أمّا عن تلك التحديات فكان توقفها بسبب أزمة الورق أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عودتها إلى الصدور بعد انتهاء الأزمة، بفضل ما بذله الأنصاري من الغالي والنفيس وتسخير جل وقته وجهده في سبيل استمراريتها وتحقيق رسالتها، ثم تولى من بعده المهمة ابنه نبيه عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- في رئاسة تحريرها الذي كان سكرتيرا لوالده منذُ 1377ه، ورافقه في العديد من رحلاته، فاكتسب منه من الخبرات التي مكنته من أن يملأ فراغ والده، وكان قد بدأ ممارسة الكتابة في المجلة منذ 1369ه ونشر أولى مقالاته في عدد ربيع الأول/الثاني قال في مطلعه: أردت بالكتابة في هذا الموضوع أن أشق طريقي إلى الكتابة الأدبية وأن هذا الموضوع هو أول موضوع اكتب، وطرأت فكرة جميلة لدى والدي عبدالقدوس الأنصاري عندما انتهى من الدراسة بإنشاء مجلة علمية أدبية بهذه البلاد وباسم المنهل، فعرض رغبته الى الحكومة السعودية فاختبرته فوجدت منه الكفاءة فأصدرت أمرها له بالموافقة على إنشائها، وكان في ذلك الوقت لا يملك غير أربعين ريال سعودي، ولكن بهمة الرجال تقام الجبال، فاتفق مع إدارة مطبعة المدينة بطبع العدد الأول بالمقدار الذي لديه فطبع العدد، وأستمر فيها وعمل على تطويرها حتى حولها إلى دارة للنشر، دارة المنهل للنشر -تصدر الأعداد الخاصة والكتب-، وسلسلة إصدارات المنهل، وسعى جاهدًا من خلالها إلى إعادة إصدار مؤلفات والده عبدالقدوس الأنصاري، ومخطوطاته التي لم تر النور، بالتعاون مع الأندية الأدبية في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقصيم، حتى وافته المنية 1424ه.
يكتب بحُب
وفي أروقة المجالس الأدبية، وبين صفحات الجرائد القديمة، كان اسم عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- يتداول باحترام واهتمام، إذ لم يكن مجرد كاتب أو موظف، بل كان رمزاً ثقافياً تشيد به الأقلام، وكان حمد الجاسر، رفيق الحرف والترحال، يردد دائمًا: «الأنصاري هو ذاكرة المدينة، ومؤرخها الذي وثّق ما غفل عنه الناس، كان يكتب بحب، وكأن كل حجر في المدينة يناديه ليكتب تاريخه»، أمّا عبده خال، الذي قرأ الكثير وكتب الكثير، فكان يراه رائدًا للتنوير، قائلاً: «لو لم يكتب عبد القدوس إلاّ المنهل لكفاه، فقد أسس بها منبراً أدبياً يضاهي كبريات المجلات في المشرق».
وكان محمد حسن عواد، المثقف الثائر، يراه مثقفًا عضويًا لا يعيش في برجه العاجي، بل يشتبك مع الحياة ويكتب لها، لا عنها، قال عنه: لم يكن الأنصاري رجل فكر فقط، بل كان صاحب موقف، رجل دولة وثقافة، لم يعرف الانفصال بين الرأي والمسؤولية.
حتى في مصر، حين وصلت روايته (التوأمان) إلى هناك، ووقعت بين يدي أمين الريحاني، كتب مستغربًا: لم أكن أعلم أن الحجاز به أدباء يكتبون الرواية بهذا الوعي، التوأمان تجربة أولى، لكنها تكشف عن عقل عربي واعٍّ، يكتب بجرأة وجمال.
وقرأ (التوأمان) طه حسين، وقرأ المنهل كذلك، فقال في تعليق قصير أرسله لأحد الكتاب السعوديين: «في الحجاز رجال كُتاب، لا يقلون شأنًا عمّن في القاهرة وبغداد، مجلة المنهل مثال لما يمكن للثقافة أن تصنعه حين تُمسكها يد مخلصة».
ولم يكن الثناء مجاملة، بل اعترافاً، اعترفوا بأنه كان الأسبق، والأشجع، والأكثر التزامًا، إن عبدالقدوس الأنصاري لم يكن كاتباً وحسب، بل صوتًا للمدينة، ولسانًا للتراث، وضميراً للثقافة التي تنمو على أرض الحجاز، ومن عرفوه، قالوا: «رحل جسدًا، وبقي أثراً».
تكريم وتقدير
وعن تكريم عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- فنال ذلك خلال حياته وبعد وفاته، تقديراً لإسهاماته الكبيرة في الأدب والتاريخ والثقافة السعودية، ومن ذلك: وسام الملك عبدالعزيز، من أبرز الجوائز التي مُنحها تقديراً لجهوده في حفظ تاريخ المدينة المنورة وتراث الحجاز، كذلك تكريم نادي المدينة الأدبي الذي أسسه بنفسه، حيث أُقيمت له فعاليات ومهرجانات ثقافية للاحتفاء بمسيرته وإنجازاته، إضافةً إلى تكريمات من وزارة الثقافة السعودية، تقديراً لدوره في إثراء المشهد الثقافي السعودي وإصداره لمئات المقالات والكتب، إلى جانب إطلاق اسمه على عدد من الشوارع والمدارس في المدينة المنورة تكريمًا لإرثه الثقافي، وكذلك عقدت دورات وملتقيات أدبية وثقافية تحمل اسمه، لإلهام الأجيال الجديدة بالتمسك بالتراث والبحث العلمي، هذا التكريم يعكس المكانة التي يحتلها الأنصاري كأحد رواد الثقافة السعودية، ومؤرخ لا ينسى في ذاكرة وطنه.
في عام 1403ه -1983م-، وفي مدينة جدة، غيّب الموت الأنصاري، لكنه لم يغيب أثره، استودع الكتب والمجلات، والمخطوطات، والإرث الثقافي بين رفوف المكتبات، ويستدل عليه في البحوث والرسائل، وتستعاد كتبه من الأجيال الشغوفة بالتراث والحركة الفكرية، وعندما تنظر اليوم إلى مجلة ثقافية في الحجاز، أو ترى بحثاً تاريخياً يستشهد فيه بآثاره، أو تعبر في حيّ من أحياء المدينة فتقرأ لوحات إحياء تراث، فسوف تجد أن شخصيتنا ما زال ينبض في حنايا الثقافة، كان يجمع بين عقل الحكيم وروح الحالم، بين العلم والإبداع، فترك ما لا ينسى، إنّ سيرته تعلمنا أن قيمة الإنسان ليست بعدد ما يملك، بل بما يعطيه، وبما يبنيه للآخرين، وبما يورث من فكر ووعي، رحم الله عبدالقدوس الأنصاري، وأسكنه فسيح جناته، وجعل أثره نوراً يستضيء به الباحثون والعاشقون.
الأنصاري مع صديقه طاهر زمخشري -رحمه الله-
وُلد عبدالقدوس الأنصاري 1324ه في المدينة المنورة
عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله-
كان لسانًا للتراث وضميراً للثقافة
إعداد- صلاح الزامل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.