في نهاية اليوم الأول من ورشة «تحليل السرد» التي نظمتها جمعية الأدب المهنية مع الدكتور حسن النعمي، وبينما كنا نهم بالخروج من القاعة، كنا نمشي أنا والدكتور أحمد القيسي فلفتت انتباهنا حقيبة نسائية منسية داخل القاعة، ومع محاولة التأكد من صاحبتها، قلت ساخراً: لعل الحقيبة مليئة «بالمال»، فقالت إحدى الحاضرات بثقة إن حقيبتها مغلقة ولا يمكن أن تفتح أبداً، عندها علق الدكتور أحمد القيسي مبتسمًا: «لا توجد شنطة بلا مفتاح». تذكرت في تلك اللحظة مقولة وأظن أنها لإمبرتو إيكو «أن النص لا يسلم نفسه من أول قراءة» وهكذا، من موقف بسيط في قاعة الورشة، تعلمنا أن القراءة الأولى ليست إلا محاولة أولى لفتح الحقيبة، وأن التعمق في النص يشبه العثور على المفتاح المناسب الذي يكشف لنا كنوزه الدفينة. بعد الورشة، لم تعد القصة بالنسبة إلينا مجرد حكاية أو تسلسل أحداث، بل حركة وعي تتخلق داخل اللغة، ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة قصة «بدون عنوان» بوصفها مجازاً للتحول المعرفي الذي يعيشه القارئ أو المتدرب حين ينتزع من منطقة الراحة القرائية، ويعاد تشكيل وعيه النقدي على يد المعلم الذي يقوم بدور -الآلة- في القصة. فحبة القمح في هذا التأويل ليست كائناً نباتياً، بل رمزاً للمتلقي قبل أن يتكون وعيه النقدي؛ فالحبة تعيش داخل «السنبلة» –أي في إطار المفاهيم السابقة والموروثة– مطمئنة إلى دفء التقليد، غير مدركة لتعدد زوايا القراءة. وحين جاء الدكتور النعمي –الذي يمثل رمز «الآلة» التي تطحن الأفكار الساكنة– بدأت عملية تفكيك البنية الراسخة في الذهن، تماماً كما تخلع «القمصان الذهبية» في القصة. إنها ليست عملية عنف جسدي، بل هزة معرفية تسلب الألفة لتمنح البصيرة، وفي ضوء رؤية النعمي وماقدمه، يصبح السرد أداة لكشف التحول لا لتجميله، فالقصة التي تبدأ بعبارة «لم أولد رغيف خبز» يمكن أن تقرأ اليوم كصوت المتدرب الذي يقول:»لم أولد ناقداً... بل كنت قارئاً مقلداً». ومع تقدم السرد، ينتقل هذا الصوت من التلقي السلبي إلى المشاركة الفاعلة، ليصل في النهاية إلى إدراك أن كل قارئ يخبز نصه بطريقته الخاصة — بعضهم يصنع خبز الفقراء (القراءة الأولى البسيطة)، وبعضهم يصنع كعك الأغنياء (القراءة الثانية العميقة)، وهذا التفاوت لا يعني التناقض، بل تعدد زوايا الرؤية التي تحدث عنها النعمي في محاضرته. فتتحرك القصة وفق منطق التحول «من الجمود إلى الحركة، ومن الانغلاق إلى التأويل»، وهي حركة تشبه ما يسمى «المعرفة بوصفها فعلاً سردياً»؛ فالآلة (المدرب / المفكر) لا تدمر الحبة بل تحررها من شكلها الأول لتكشف جوهرها الجديد، وهكذا تتحول كل تجربة سردية إلى ولادة نقدية جديدة. الطحن هنا فعل معرفي، لا مادي؛ إنه تمزيق القوالب التي كنا نظنها يقيناً ومسلماً بها، ففي نهاية القصة، وتحديداً أمام عبارة: «بعضكم خبز للفقراء وبعضكم كعك للأغنياء»، يتجلى معنى التفاوت القرائي الذي تحدث عنه النعمي — فليس كل القراء سواء في تمثل النص، فكل منهم يصنع معنى مختلفاً بحسب وعيه وخبرته وثقافته، وهذا التعدد لا يلغى، بل يحتفى به؛ لأن النص الحقيقي، هو الذي يقبل أكثر من قراءة ولا يكتمل إلا بالاختلاف. بهذا الفهم، تصبح «بدون عنوان» ليست قصة عن القمح، بل قصة عن النقد ذاته، رحلة من السكون إلى الوعي، ومن النقل إلى التأويل، ومن الشكل إلى الجوهر. ويمكن القول إن الدكتور حسن النعمي لم يكن في الورشة (يحلل السرد) فقط، بل كان يطحن مفاهيمنا القديمة ليصنع منها خبزاً نقدياً جديداً نقتات به في قراءاتنا المقبلة. د. حسن النعمي خلال تقديمه ورشة عن السرد قصة من دون عنوان لم أولد رغيف خبز، فقد كنتُ بدءًا حبة قمح داخل سنبلة خضراء تتمايل مع نسائم الصيف، حتى جاءت آلة أخذتنا جميعاً إلى حيث خلعوا عنا قمصاننا الذهبية، ووضعونا في أوعية كبيرة. كنت مرهقاً في هذا اليوم من كثرة الترحال وحزيناً على فقد سنبلتي وقميصي الذهبي، واستيقظت على بكاء حبات القمح حولي، كل حبة تبحث عن أخواتها ولا تجد لهم سبيلاً، دون أن أدري، وجدت نفسي أحتضن بعض الحبات وأغمضنا أعيننا ولم نستيقظ إلا على ضوء الشمس، ويد حانية تشبه نسائم الفجر تقلبنا ذات اليمين وذات الشمال، تساءلنا فيما بيننا عن هذه اليد، فأجابتنا قمحة عجوز ترقد في شق في حافة الوعاء الضخم: * إنها نوارة فتاة تعمل في جمع وتنقية القمح. – ماذا يحدث لنا يا خالة؟ – ستخرجون من هنا إلى المطاحن حيث تصبحون دقيقاً، ثم يصبح بعضكم خبزاً للفقراء وبعضكم كعكاً للأغنياء.