في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات، وتتنازع فيه الصور على وعينا بأنفسنا وبما نحن عليه، يُطل الفيلسوف الفرنسي دافيد لوبروتون عبر كتابه (اختفاء الذات عن نفسها) ليضع بصمة قلمه على جرحٍ إنساني عميق في عصرنا الحاضر، اختفاء الإنسان عن ذاته، ليس بالمعنى الفيزيائي أو الفلسفي المجرد، بل بالمعنى الوجودي المُعاش، حيث يتحوّل الفرد المعاصر إلى كائنٍ غريبٍ عن نفسه، يعيش دون أن يحسّ بوجوده الكامل. يرى لوبروتون أن الإنسان الحديث يواجه أزمة هوية متفاقمة، ناتجة عن تشتّت المعنى وسط عالمٍ متخم بالضجيج، السرعة، والسطحية، واللامبالاة، حيث فقد الإنسان علاقته الأصيلة بذاته تحت وطأة الأداء الاجتماعي والانغماس التقني، وأصبح كما يقول الكاتب "يمارس حياته بوعيٍ غائب" يتحرك آلياً كما لو كان مجرد دور يؤديه في مسرحٍ لا يدري كيف صعد إليه. يصف المؤلف ظاهرة "اختفاء الذات" كنوع من البياض الداخلي، وفراغ نفسي وفكري يجعل الإنسان يتوارى عن ذاته بإرادته أو من دونها، وقد تتخذ هذه الحالة أشكالاً متباينة، من الانغماس في العمل بشكل مفرط، إلى الإدمان، أو الانعزال التام عن العالم الواقعي، وهي كما يرى الكاتب ليست مرضاً بقدر ما هي علامة على زمن فقد بوصلته الوجودية. العزلة كملاذ.. أم كهاوية؟ يناقش لوبروتون فكرة الانعزال من زاوية أنثروبولوجية مختلفة؛ فهو لا يراها شراً محضاً، بل محاولة فطرية لإعادة التوازن بين الداخل والخارج، غير أن الإشكال يكمن في أن العزلة الحديثة غالباً ما تكون هروباً لا تأملاً، عزلة رقمية لا روحانية، حيث يستبدل الإنسان حضوره الواقعي بهوية افتراضية أو صمتٍ قسري، يضاعف اغترابه عن محيطه الاجتماعي الواقعي. بين الحضور والغياب الكتاب الذي بين أيدينا ليس تشخيصاً نفسياً بقدر ما هو تأمل أنثروبولوجي في هشاشة الإنسان المعاصر، فهو يصف حالة "الغياب الحاضر" التي نعيشها جميعاً حين نصبح متصلين بكل شيء عبر الشاشات، لكننا في العمق مفصولون عن أنفسنا، إنه نقدٌ ناعم للعصر الرقمي الذي جعل من الهوية مشروعاً مستمراً، والإخفاء في آنٍ واحد. الذات التي تذوب في العالم «اختفاء الذات عن نفسها» ليس كتاباً تشاؤمياً بقدر ما هو مرآة دقيقة لإنهاك الإنسان المعاصر؛ إنه يذكّرنا بأن أخطر ما يهددنا اليوم ليس الموت أو العزلة، بل الاختفاء الصامت خلف الواجهة. تأمل في إنسان ما بعد الحداثة في النهاية، لا يدّعي لوبروتون أنه يقدم حلولاً جاهزة، بل يفتح نوافذ للتأمل في معنى أن تكون "ذاتياً" في زمنٍ لم يعد يعترف بالثبات أو العمق، وبينما يبحث البعض عن الذات في العزلة، وآخرون في التجربة الروحية أو الفن أو الكتابة، يذكّرنا الكتاب بأن أخطر أنواع الغياب هو الغياب عن أنفسنا ونحن نعيش بين الآخرين. العزلة من المنظور الإسلامي في الدين الإسلامي الذات ليست غاية بذاتها، بل طريقٌ إلى معرفة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أي أن معرفة الإنسان لذاته هي بابٌ لمعرفة خالقه. ولهذا يدعو المنهج الشرعي إلى الاتزان بين العزلة والخُلطة، فالخلوة عبادة حين تكون للتأمل والمحاسبة، لكنها انقطاع مذموم إذا قادت إلى الغفلة أو القنوط. كما يرى بعض العلماء أن العزلة خير إذا كان في الخلطة شر، وإن لم يكن كذلك؛ فالاختلاط بالناس أفضل، ولهذا جاء في الحديث: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) رواه الترمذي. «اختفاء الذات عن نفسها» ليس نقداً للتقنية فقط، بل مرآةٌ لزمنٍ تُقاس فيه القيمة بالظهور لا بالحضور. دعوة لأن نصغي لصمتنا، ونعود إلى أنفسنا قبل أن نصبح غائبين ونحن في قلب الزحام. الغلاف