يرجع الاهتمام بتحليل الدعاية إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث شهد العالم في ثلاثينات القرن العشرين تصاعداً غير مسبوق في استخدام الدعاية بوصفها أداة سياسية واجتماعية فعّالة، خاصة مع ظهور أنظمة حكم حزبية في أوروبا، مثل: النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، وجرى توظيف وسائل الاتصال الجماهيري لتعبئة الشعوب وتشكيل الوعي الجماعي بما يخدم الحزب والسلطة. وفي المقابل، كانت الولاياتالمتحدة الأميركية تمرّ بمرحلة إعادة بناء بعد أزمة الانهيار الاقتصادي، وتشهد توسعاً في استخدام وسائل الاتصال الجماهيري خصوصاً الإذاعة، التي أخذت تؤدي دوراً كبيراً في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وكانت هي الوسيلة الأكثر تأثيراً في تشكيل الرأي العام في تلك الحقبة، وهذا ما أثار نقاشاً واسعاً حول تأثير الإعلام في الرأي العام وخطر توظيفه في التلاعب بالعقول. وفي هذا السياق، برزت الحاجة إلى توعية الجماهير بمفهوم الدعاية وأساليب تأثيرها عليهم. ومن أهم الأنشطة في هذا المجال إنشاء ما كان يُعرف ب (معهد تحليل الدعاية) في عام 1937م في الولاياتالمتحدة، وهو أول مؤسسة بحثية متخصصة أُنشئت لدراسة الدعاية وفهم أساليبها وتأثيراتها على الرأي العام، جاء تأسيس المعهد بمبادرة من مجموعة من العلماء والتربويين والناشرين، وبمشاركة عدد من الباحثين المهتمين بالخطاب العام والتثقيف الإعلامي، وكان الهدف من إنشاء المعهد هو مساعدة المواطنين على التفكير النقدي تجاه الرسائل الإعلامية والسياسية التي يتلقونها يومياً، وتمكينهم من تمييز الدعاية والتعرف على أساليب الإقناع والتلاعب المستخدمة فيها. اعتمد المعهد في أبحاثه على تحليل محتوى المواد الإعلامية والسياسية السائدة في ذلك الوقت، مثل: الخطب الانتخابية والإعلانات السياسية والمقالات الصحفية والنشرات الإذاعية. وقد أنتج ما يسمى الآن ب(أساليب الدعاية السبعة)، وهي تصنيف شهير ما زال يُدرّس في بعض مناهج التربية الإعلامية والوعي الإعلامي حتى اليوم. وأصدر المعهد سلسلة من النشرات والدراسات التحليلية التي انتشرت على نطاق واسع بين المعلمين والطلبة والمثقفين، وأسهمت في تأسيس ما يمكن اعتباره البدايات الأولى لمفهوم (التربية الإعلامية) أو (الوعي النقدي بالإعلام) في التاريخ الحديث. كانت هذه المبادرة سابقة لعصرها لأنها سعت إلى جعل الجمهور ليس متلقياً سلبياً للمعلومات، بل محللاً وناقداً للأساليب الإقناعية المستخدمة في الخطاب العام. توقف المعهد عن العمل عام 1942م، مع دخول الولاياتالمتحدة الحرب العالمية الثانية، وكان سبب التوقف الرئيس هو التحول في المناخ السياسي والاجتماعي، حيث واجه المعهد صعوبات مالية بعد فقدان بعض مصادر التمويل الخاصة. ولكن رغم توقفه، فإن إرث المعهد لا يزال قائماً حتى اليوم، إذ يُنظر إليه بوصفه نقطة انطلاق مبكرة في تاريخ (دراسات الدعاية) و(التربية الإعلامية)، فقد أسس لفكرة أن الوعي بأساليب الإقناع والدعاية ضرورة لحماية المجتمع من التلاعب، وأن التعليم يجب أن يتضمن تدريباً على التفكير النقدي في مواجهة الخطاب الإعلامي. ونستطيع القول إن ما يدرّس اليوم في مجالات تحليل الخطاب الإعلامي، والاتصال السياسي، والتربية الإعلامية النقدية، يعود في جذوره إلى هذا المعهد الذي سبق عصره وفتح الباب أمام فهم علمي للدعاية بوصفها ظاهرة اجتماعية ونفسية وثقافية. وكما ذكرنا، فإن من أهم منتجات هذا المعهد ما يسمى بالأساليب السبعة للدعاية، وفيما يلي عرض مختصر لهذه التصنيفات السبعة: أولاً، أسلوب الألقاب Name Calling، الذي يقوم على توظيف كلمات أو أوصاف سلبية لمهاجمة شخص أو جماعة أو فكرة، بهدف خلق رفض فوري دون نقاش حقيقي، على سبيل المثال: وصف سياسي بأنه (فاسد) أو (خائن) أو (شيوعي) أو (فاشي)، أو جماعة بأنها (متطرفة) أو (إرهابية) قد يدفع الجمهور إلى عدم الثقة بالشخص أو الجماعة قبل التحقق من الأدلة. ثانياً، أسلوب التعميم البراق Glittering Generalization، ويقوم على استخدام كلمات أو عبارات جميلة ومؤثرة وذات وقع عاطفي قوي، لكنها غامضة وغير محددة، بحيث تثير مشاعر إيجابية لدى الجمهور دون أن تقدم مضموناً دقيقاً أو قابلاً للتحقق، مثل: الحرية، والعدالة، والمستقبل، والتقدم، والازدهار، وغيرها. والغرض من هذا الأسلوب هو جعل الناس يقبلون الفكرة أو يؤيدونها عاطفياً فقط، من غير تفكير نقدي أو فحص منطقي. ثالثاً، أسلوب النقل Transfer، ويقوم على ربط شخص أو فكرة أو منتج برمز أو جهة أو قيمة إيجابية أو سلبية، من أجل إثارة استجابة عاطفية ونقل تلك الصفات الإيجابية أو السلبية إلى الهدف. وتقوم في الغالب على العاطفة بدلاً من المنطق، من ذلك مثلاً عندما يظهر المرشح السياسي بجوار علم الدولة، أو بجوار رموز دينية، أو محاطاً بأفراد العائلة والأطفال. رابعاً، أسلوب الاستشهاد بالآخرين testimonial، ويقوم على استخدام شهادة أو رأي شخص مشهور أو موثوق لدعم فكرة أو منتج، والهدف هو أن مكانة هذا الشخص أو مصداقيته أو جاذبيته تنتقل إلى الرسالة الدعائية، مما يعزز الإقناع العاطفي أكثر من البرهان العقلي. هنا يتحول الفرد المؤثر إلى وسيط رمزي يعزز قبول الرسالة، ولذلك يكثر استخدام المشاهير في الحملات الدعائية والإعلانية بأنواعها المختلفة. خامساً، أسلوب انتقاء المعلومات card stacking أو cherry-picking، ويقوم على انتقاء المعلومات، بحيث يتم عرض الجوانب الإيجابية للفكرة أو المنتج، ويتم إخفاء أو تجاهل السلبيات. وهو نوع من التلاعب الإعلامي يركز على الانتقاء والتحيز بدلاً من الشمولية أو التوازن. في الحملات الانتخابية مثلاً يتم التركيز على إنجازات المرشح وتضخيمها وتجاهل إخفاقاته. سادساً، الأسلوب الشعبي plain folks أو common man، ويقوم على إظهار شخصية أو منتج أو فكرة وكأنها مرتبطة بالناس العاديين، أي (الشخص البسيط من عامة الشعب). والهدف إقناع الجمهور بأن المتحدث أو السلعة قريبة من تجربتهم اليومية وليست نخبوية. مثال على ذلك، سياسي يظهر في إعلان انتخابي وهو يتناول الطعام في مطعم شعبي، أو يشارك العمال في مصنع، ليبدو وكأنه واحداً منهم. سابعاً، أسلوب ركوب الموجة Bandwagon، ويقوم على إقناع الجمهور بالانضمام إلى فكرة أو منتج أو موقف لأنه يحظى بشعبية واسعة، أي (الكل يفعل ذلك، فلماذا لا تفعل أنت أيضاً؟) هذا الأسلوب يعزز شعور الانتماء للجماعة ويستغل خوف الأفراد من العزلة أو الاختلاف. مثال ذلك الحملات السياسية التي تكرر شعار (الكل موافق، الكل معنا)، أو الإعلانات التجارية التي تصف منتجاً أنه (الأكثر مبيعاً). وبعد توقف معهد تحليل الدعاية عن العمل، قدم باحثون آخرون دراسات عن الدعاية من وجهات نظر مختلفة، وبرزت دراسات الإقناع وتغيير الاتجاهات من منظور علم النفس الاجتماعي، كما ظهرت مناهج نقدية درست علاقة الدعاية بالسلطة وصناعة الإعلام، وحالياً، هناك اهتمام بتحليل أساليب الدعاية من خلال الاتصال الرقمي حيث تتنوع أساليب التأثير من خلال المنصات الرقمية.