تشهد المملكة تحولاً حضارياً غير مسبوق، تترسخ أبعاده في رؤية 2030، وقد تجسّد هذا التحول مؤخراً في قرار تاريخي غير مسبوق: إطلاق جامعة الرياض للفنون. هذا الإنجاز، الذي يقف خلفه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- عراب الرؤية ومحركها الاستراتيجي، لا يمثل مجرد إضافة أكاديمية، بل إيماناً بالدور الاستراتيجي للفنون في بناء المستقبل. إنها خطوة تعيد إحياء مفهوم عريق طرحه العلامة ابن خلدون قبل قرون، مفاده أن الفنون والصنائع المتقنة هي المقياس الحقيقي لمدى تحضر ورخاء الأمم، فكيف تتلاقى نظرية العمران لابن خلدون مع طموح القيادة السعودية في جعل الفن معياراً للنهضة؟ يربط ابن خلدون في «المقدمة» ازدهار الفنون والصنائع بشكل وثيق بدرجة تحضر ورخاء الدولة، لم ينظر إليها كترف مجرد، بل كمؤشر ودليل لا يُخطئ على وصول العمران إلى مرحلة النضج والكمال. فالفنون ضرورة للحياة الحضارية؛ فعلى الرغم من أن ابن خلدون صنّف الفنون ككماليات تنمو في ظل الوفرة، إلا أن النظرة المعاصرة تؤكد أن الفنون هي ضرورة حياتية تخدم الإنسان والمجتمع في كل المراحل، فالفن ليس مجرد ترف يُطلب في الرخاء، بل هو أداة للتعبير وبناء الهوية، ومحفز للتقدم والذوق. لذلك، فإن ظهورها لا يكون إلا في المجتمعات التي تدرك أهميتها كمكون أساسي لقوة البلد اقتصادياً وحضارياً، عرّف ابن خلدون الفن والصناعة بأنها «ملكة في أمر عملي فكري»، هذه «الملكة» لا تعني الموهبة الفطرية فحسب، بل هي قدرة راسخة ومكتسبة (احتراف) تنتج عن الممارسة الطويلة والتكرار والتعلم المستمر، هي الدرجة التي يصل إليها الفنان أو الصانع ليتمكن من أداء عمله ببراعة وإتقان تامَّين، فتغدو الصنعة كجزء طبيعي من مهاراته، هذا التفسير العميق يجسد الحاجة الملحة إلى مؤسسات تعليمية متخصصة تضمن تمكين هذه «الملكة» الفنية. ويأتي قرار إنشاء جامعة الرياض للفنون تتويجًا وترجمة عملية للمفاهيم التي نادى بها ابن خلدون في سياق العصر الحديث، واعتماد للفنون كمحرك رئيس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المملكة تحت قيادة سمو الأمير محمد بن سلمان. جامعة الرياض للفنون هي أول جامعة حكومية سعودية متخصصة في الفنون والثقافة، تهدف للريادة في التعليم الإبداعي من خلال شراكات عالمية واسعة، وتطمح لأن تكون ضمن أفضل 50 جامعة دولية متخصصة، ستقدم الجامعة برامج أكاديمية متعددة الدرجات (من الدبلوم حتى الدكتوراة)، وتضم في خطتها التوسعية 13 كلية تغطي تخصصات واسعة كالموسيقى، الأفلام، الإدارة الثقافية، الفنون البصرية، وحتى فنون الطهي، لتكون منارة معرفية ملهمة وممكنة للمواهب الوطنية. هذا التأسيس يعني ثلاثة أبعاد استراتيجية: التمكين المؤسسي للثقافة إنشاء الجامعة هو استثمار استراتيجي في البنية التحتية التعليمية، ويؤكد أن الفنون أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عملية التنمية، تهدف الجامعة إلى توفير كوادر وطنية مؤهلة في تخصصات نوعية وواسعة، مما يضمن توطين المعرفة الفنية بأعلى المعايير العالمية. ثم تأتي الثقافة كرافد اقتصادي؛ إذ تُعد الجامعة مركزاً حيوياً للاقتصاد الإبداعي، فتتحول الفنون إلى مسار مهني مدر للدخل ومولد للوظائف، مما يدعم هدف «رؤية 2030» لزيادة مساهمة القطاع الثقافي في الناتج المحلي الإجمالي، وخلق آلاف الفرص الوظيفية الجديدة للشباب السعودي. هذا يرسخ الفكرة بأن الفن ليس ترفاً، بل استثمار اقتصادي ذكي، ثم تعزيز الإبداع والهوية؛ حيث تؤكد هذه الخطوة على أهمية رعاية المواهب كجزء من بناء مجتمع حيوي، توفر الجامعة بيئة تعليمية مبتكرة ومحفزة لتمكين الأجيال القادمة من صقل مواهبهم، كما أن وجود جامعة متخصصة يعزز التفاعل الثقافي والفني مع العالم، ويعكس الانفتاح والحضور الثقافي للمملكة، مسهماً في بناء هوية ثقافية متجددة ومؤثرة. خلاصة القول: ما يحدث اليوم في السعودية هو إحياء حقيقي للإرث الحضاري بمنظور مستقبلي، لم تعد المملكة تنتظر الازدهار لتولد الفنون، بل تستثمر في الفنون لتصنع الازدهار. إن جامعة الرياض للفنون تتويج لفكرة ابن خلدون بأن الفن دليل التحضر، وتأكيد على أن الثقافة هي رأس مال الأمة في القرن الحادي والعشرين. بهذا اليقين، يتصدر عهد سَلْمَان المشهد العالمي، وتتجدد معه وبه حضارة الأوطَان، ويسمو تحت قيادته الإبداع والعُمْرَان.