كانت الحياة ثقيلةً والعيش شظفًا، وكان الرجال كالجمال في تحملهم وصبرهم. وكالجبال في ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم. فكم توكلوا على الله وساروا في مناكب الأرض رغم جدبها، ووعورة مسالكها، وما يسكنها من الجوع والخوف؟ كم مرةً بذل أولئك الرجال ما بأيديهم وهم في أمس الحاجة؟ حتى صاروا مثالًا يردده التاريخ في الإيثار والكرم! كم قدموا من المروءات التي صارت نموذجًا تقصر دونه مروءات الرجال بعدهم؟ وكم مرةً طلبوا الموت ونجوا من براثنه؟ الموت ظمأً في متاهات الصحاري، أو جوعًا مُهلكًا ألجأهم لربط الحصى على بطونهم، أو قتلًا بسيوف أعدائهم المتربصين بهم على طول الديار وعرضها. فإذا وصلت ركاب الناجين منهم إلى بر الأمان، والتفتوا إلى طريق المهالك الذي خلفوه وراءهم، ما كان أحدهم ليقف مفتخرًا بفعله دون الآخرين، فإن غلبته شهوة الظهور وفعل؛ صاح به صوت الحكيم: "افعل والرجال تكفيك". نعم، "افعل والرجال تكفيك"، مقولة تحتضنها ذاكرة "بعض" الأحفاد، وتعي مغزاها وفائدتها في كل زمان، وفي زماننا هذا على وجه الخصوص، إذ إننا في أمس الحاجة للعمل بإخلاص، وتوجيه طاقة الفرد والمجتمع نحو العمل دون ادعاء، والحقيقة دون زيف، والفعل دون تضخيمٍ أو ترديد؛ لأن المجال مجال تسابق في كل ما يخدم الإنسان ويعلي شأنه، وشأن مجتمعه ووطنه، أما شهادة الإنجاز والإتقان فسيجدها على ألسن "الرجال" الصادقين المنصفين، الذين ينزلون الناس منازلهم، ويذكرون كل أحدٍ بما هو أهلٌ له من الثناء والإشادة. في المقابل هناك "الكثير" من الأحفاد فضلوا القول على العمل، أولئك الكسالى المهووسون بأنفسهم، المنشغلون بتمجيد ذواتهم، حين جعلوا من وسائل التواصل الاجتماعي منابر دعاية لهم، حتى إن بعض المنتفعين حولهم عرفوا نقطة ضعفهم تلك، فاشتغلوا مصورين وناشرين، يمجدون هذا بقصيدةٍ "مُغناة"، وآخر بأبياتٍ تزين صورته، وتجمله بما ليس فيه من مكارم وسمات! وثالثٌ نسجوا حول كرمه ومروءته الحكايات، وساقوا شهادات الزور بلا خجلٍ ولا وجل! وهذا حال القوم في مضاربهم "الرقمية" على مدار اليوم والساعة، كحال "الْمُنبَتَّ لا أرضاً قطعَ ولَا ظهْراً أبْقَى"! قال عليه الصلاة والسلام (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور). ومن أشعار قدماء العرب قول المغيرة التميمي: وَما حَسنٌ أَن يَمدَحَ المَرءُ نَفسَهُ ولكِنَّ أَخلاقاً تُذَمُّ وَتُمدَحُ ولرشيد الزلامي قوله: عيبٍ على الرجال مدحه لروحه الرجل يفعل والأجاويد تكفيه