الفلسفة الغائبة عن مفهوم الهدية هي أننا نظنها للتعبير، بينما هي في حقيقتها وسيلة للفهم، فحين نهدي نُعلن عن مستوى وعينا بالآخر، عن قدرتنا على قراءة احتياجه، عن عمق علاقتنا بالحياة ذاتها، فالهدية ليست تبادلاً للأشياء؛ بل اختبار لذوقنا ولصدقنا ولمدى تحررنا من وهم التكرار، إنها مرآة صغيرة تكشف مقدار الوعي في مجتمعاتنا ومدى حضور التفكير خلف الفعل.. هل نعرف كيف نهدي، وماذا نهدي؟ هل نهدي لأجل التقليد أم الواجب أم المظهر أم خشية القيل القال؟ تعالوا لنتأمل هذا المشهد في لحظة الولادة؛ يتجلى المعنى الأسمى للعطاء الإنساني إذ يخرج إلى العالم كائن جديد يمثل دورة الحياة في أنقاها، ومع ذلك حين ننظر إلى طقوس الهدية التي ترافق هذا الحدث نجد أنفسنا أمام مشهد يفتقد إلى جوهر المعنى رغم بريق المظاهر، زهور براقة تتناثر في الغرف وتذبل بعد ساعات، وعلب شوكولاتة فاخرة قد يهمل معظمها، أو قد تتداولها الأيدي بين الزائرات والعاملات حتى تنتهي في سلة النسيان ولا يبقى منها سوى الورق الفضي الملقى على الأرض، وكأن الهدية لم تكن تعبيرًا عن فرح؛ بل أداء لواجب اجتماعي مكرر لا يعي لحظة الولادة قدرها، هذا مشهد ساطع.. ويبقى هدر الأسئلة ماذا عن مناسبات الزواج، وحفلات النجاح، واجتماعات الفرح وغيرها؟ الهدية في جوهرها ليست ما يُقدّم بل ما يُفكَّر فيه، إنها الفعل الذي ينطوي على نية الخير والعناية لا على ثمن الشيء ولا على شكله، ومع ذلك أصبح الإهداء في مناسباتنا أقرب إلى استعراض من الوعي إلى عادة من التقدير إلى البروتوكول، نشتري ما يشتريه الآخرون، نهدي ما يراه المجتمع لائقًا لا ما يحتاجه المولود أو ما يعين الأم في لحظة تعبها، وكأننا نسينا أن الهدية الحقيقية هي ما يترك أثرًا لا ما يثير إعجابًا مؤقتًا. في الزمن القديم كانت الهدايا تصدر عن بساطة وحكمة، كانت الأمهات يهدين بعضهن شيئًا ينفع المولود؛ بطانية مصنوعة يدويًا، زيتًا طبيعيًا، قطعة من الذهب تحفظ القيمة على مر السنين، أو حتى صحن طعام دافئ يُرسل من القلب إلى القلب دون بطاقة ولا تغليف مبالغ فيه، كانت الهدية تعني المشاركة في الفرح لا استعراض الفرح.. واليوم حين تتكاثر الباقات والعلب الفاخرة تضيع الفكرة ويتحول المشهد إلى منافسة صامتة من يهدي أكثر لا من يفكر أعمق. الفلسفة الغائبة عن مفهوم الهدية هي أننا نظنها للتعبير، بينما هي في حقيقتها وسيلة للفهم، فحين نهدي نُعلن عن مستوى وعينا بالآخر، عن قدرتنا على قراءة احتياجه، عن عمق علاقتنا بالحياة ذاتها، فالهدية ليست تبادلاً للأشياء؛ بل اختبار لذوقنا ولصدقنا ولمدى تحررنا من وهم التكرار، إنها مرآة صغيرة تكشف مقدار الوعي في مجتمعاتنا ومدى حضور التفكير خلف الفعل. إن الأم التي تخرج من غرفة الولادة لا تحتاج إلى باقات الورد؛ بل إلى لمسة من الفهم، ربما كتاب يسليها في ليالي السهر، أو اشتراك في خدمة توصل لها ما تحتاجه، أو قطعة صغيرة تحفظ ذكرى يومها بطريقة عملية، حتى المولود لا يحتاج شوكولاتة تتهادى بها الأيدي، بل شيء ينفعه بعد أيامه الأولى؛ ثوب قطني مريح أو دعم يخفف على والديه نفقات البداية، لكننا في غفلتنا نركض خلف العادة لا خلف الفائدة. لسنا بحاجة إلى مزيد من الزهور المرمية، ولا إلى مزيد من الشكولاتة التي تذوب قبل أن تصل إلى معناها، نحن بحاجة إلى هدية تليق بالإنسان، بالوعي، بالعصر الذي نفهم فيه أن القيمة لا تُقاس بالمظهر بل بما يتركه الشيء من أثر طويل أن الهدايا ليست طقوسًا شكلية؛ بل إشارات روح بين الناس دليل على نباهة المهدِي لا على ذوقه وحده. ربما آن الأوان أن نعيد النظر في فلسفة الإهداء كلها، وأن نتعلم ماذا نهدي، ونتخلص من هزيمة الذات بالتقليعات والتقليد ونتدبر الأمر بحق، فإن الهدية لا تكون ثمينة لأنها باهظة بل لأنها صادقة، وأنها لا تبهج لأنها جميلة؛ بل لأنها نافعة، وأن أجمل ما في الهدية هو لحظة الفهم لا لحظة التغليف.. وحين نفهم ذلك سنهدي كما يجب، سنزرع معنى في مكان وردة، وسنقدم فكرًا في مكان شوكولاتة، وسنمنح الإنسان ما يحتاجه لا ما تقتضيه العادة، وحينها فقط ستعود الهدية إلى حقيقتها؛ فعل حب خالص لا تقليد اجتماعي يذبل مع أول زهرة.