لقد كان دوري على الدوام هو دور الناقد الذي يحاول أن يقوّم ما يقدمه الطلاب ويوسّعه ويربطه بالسياق المعرفي النقدي ويقرّبه للخطاب المعماري السائد في مجال الفكرة التي يقدمها الطلاب.. هكذا تتحول المحاضرة كل أسبوع إلى ساحة للحوار بدلًا من الخطاب التعليمي التقليدي الذي هو غالبًا من طرف واحد.. ربما تكون فلسفة التعليم هي الأكثر جدلا، فهي المجال الأوسع للتجريب والأكثر ارتباطا بشخصية المعلم وأسلوبه ورؤيته، لذلك هي أشدّ المجالات تقنينا فقد ارتبطت بما يسمى "المنهج" والكلمة تعني الطريق الذي يجب أن يسير عليه المعلم والطالب، ولا يوجد تعليم دون مناهج، ولا توجد هناك وسيلة للتفلت من هذه المناهج. التعليم المعاصر ولد ومع قيوده التي تُحجّمه وتُعلّبه في صناديق مغلقة يصل من خلالها الطالب إلى الشهادات التي تحدده مسار حياته، وهي شهادات لا تعني أن حاملها تعلّم فعلا لكنه بالتأكيد سلك مجموعة من المناهج التي خوّلته الحصول على هذه الشهادة، كنت أفكر في هذه الفلسفة منذ أن أصبحت معلما في مطلع التسعينات الميلادية من القرن الماضي، ولم أكن مقتنعا بفكرة المنهج ولم استسغ التقيد بحدودها، واستطيع أن أقول إنني كنت ثائرا على المنهج ومؤمنا بالتعليم الحر، لكن ما الحرية التي نستطيع ممارستها في تعليم أكاديمي يفترض أن له مخرجات محددة؟ سوف أتحدث عن جزء من تجربتي مع التعليم المعماري خلال أكثر من 35 عاما، وهو تعليم يرتكز على الجمع بين النظرية والممارسة، مما يجعله تعليما معقدا إلى حد ما، إذا ما وضعنا في اعتبارنا حجم المعارف والمهارات التي يفترض أن يتعلمها المعماري. كنت منذ البداية مؤمنا أنه يستحيل الجمع بين النظرية والممارسة عبر المناهج التقليدية، وما زلت غير مؤمن بإمكانية هذا الجمع، خصوصا مع هيمنة برامج الاعتماد الاكاديمي التي جعلت التعليم عبارة عن ورق وملفات وجعلت من المعلم مجرد تابع. لكن ما البديل؟ ربما بدأت أفكر في هذا السؤال بشكل واضح نهاية عام 1998م بعد أن حصلت على الدكتوراه وانخرطت في التعليم الأكاديمي بشكل أكثر صرامة، في الوقت نفسه كنت مؤمن أن بأن الطالب هو محور التعليم، فقررت منذ ذلك الوقت "عكس العملية التعليمية" فبدلا من يكون الأستاذ هو الذي يقدم المادة العلمية صار الطالب هو من يصنع مادة المحاضرة، وأصبح دوري الأساسي هو التعليق على ما يقدمه الطلاب في كل محاضرة، وجدت أن هذا الأسلوب يجذب انتباه الطلاب فكون الأستاذ يقوم بتوسيع الفكرة التي يقدمها الطالب ويربطها بالسياق المعرفي كأنه خطاب شخصي للطالب وحوار خاص معه. في البداية لم تكن المسألة واضحة تماما، ولأني لم أكن مؤمنا بفكرة الامتحان التقليدي ظهرت مشكلة أخرى، فكيف يمكن "تقييم" الطلاب والتأكد من اكتسابهم للمعرفة والمهارة المطلوبة، وكما هو معروف تقييم الطلاب يعتبر أحد محاور فلسفة التعليم، والتأكد من الكسب العلمي مسألة لا يمكن التنازل عنها، لكن الفلسفة التعليمية التي محورها الطالب يصعب معها تطبيق الامتحانات التقليدية، فكان الحل هو توزيع التقييم على المشاركات الأسبوعية حيث يقوم كل طالب بتقديم عرض قصير حول موضوعات المادة، وأنا غالبا مختص في مادة النقد المعماري وتاريخ العمارة، وفي حال وجود عدد كبير من الطلاب يتم توزيعهم إلى مجموعات تقوم كل مجموعة بعرض أسبوعي لكن في نهاية الفصل يكون هناك عرض شامل يحضره من أراد من الأساتذة والطلاب وحتى ضيوف من الخارج. يجب أن أذكّر القارئ هنا أن من يقدم المادة المعرفية هو الطالب وليس الأستاذ، لقد كان دوري على الدوام هو دور الناقد الذي يحاول أن يقوّم ما يقدمه الطلاب ويوسّعه ويربطه بالسياق المعرفي النقدي ويقربه للخطاب المعماري السائد في مجال الفكرة التي يقدمها الطلاب، هكذا تتحول المحاضرة كل أسبوع إلى ساحة للحوار بدلا من الخطاب التعليمي التقليدي الذي هو غالبا من طرف واحد. عندما ذكرت هذه الأسلوب للزميل فؤاد الذرمان قال إن هذا يذكّره بحوارات "أفلاطون" مع الناس في الأسواق عندما كان يحاورهم في المسائل الأخلاقية، ويبدو أن فكرة الحوار جوهرية في التعليم، فالمثل الروسي يقول "من الحوار يخرج النور" لكن يستحيل خلق حوار عبر أسلوب التعليم الذي يتسيد فيها المعلم قاعة الدرس لأن الطالب سيكون مجرد متلقٍ صامت، لذلك كان من الضرورة بمكان عكس العملية ليكون الطالب هو المحور وهو الذي يصنع الحوار، لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة، فالأمر يتطلب من المعلم أن يكون محاورا لا ملقيا أو واعظا، أن يكون متحررا من قيود المنهج لكنه في نفس الوقت قادر على وضع حدود للحوار وتحديد مساحته التي تتناسب مع الطلاب، وفي حالة التعليم المعماري يجب أن يكون للحوار ارتباطات مهنية خصوصا الارتباط مع التصميم فليست مهمة الناقد أن يخلق النظرية فقط بل يجب عليه أن يدل على طريق تطبيقها. يجب أن أعترف هنا أنني تعلمت كثيرا من الحوار مع الطلاب فقد اكتشفت أن التعلّم كان متبادلا بدرجات متفاوتة. والحقيقة أن كثيرا من الأفكار تمت صياغتها وبلورتها خلال تلك الحوارات التي امتدت على مدى سنوات ومع عدد كبير من الطلاب، لكن يجب أن أذكر كذلك أن تلك الحوارات لم تتكرر حتى لو تكرر الموضوع العام الذي يتناوله الطلاب. بالنسبة لي كنت في حالة تحضير دائم، ولعل الأصح أن أقول إنني لم أجهز مادة علمية محددة لأي حوار مع الطلاب خلال عملي كمعلم، لكن لا أنكر أبدا أنني لم أخرج من أي حوار دون أن تتطور لدي فكرة جديدة أو سؤال جديد. تأكدت بعد كل هذه السنوات أن الطالب يجب أن يكون هو محور فلسفة التعليم وليس المنهج، وأقصد على وجه التحديد يجب أن يتاح للطالب أن يصنع المنهج لا أن يسجن داخله.