حضرتُ قبل أيامٍ مع أحدهم مؤتمراً في غير تخصصي، وهو المؤتمر الدولي السابع للطاقة النظيفة والتكنولوجيا (نحو الحياد الكربوني)، في كوالالمبور، وكنتُ فيه غريب الوجه، واليد، واللسان، والتخصص، كان غريباً علي، وكنتُ غريباً عليه، أخذتُ أتأمل أوراق العمل، وجلستُ أستمع إلى المداخلات، ثم تجوّلتُ بعد ذلك بين الجلسات مع المؤتمرين، وقد خرجتُ من هذا المؤتمر بفوائد عدة، كان من أهمها: محاولة الاستفادة من مؤتمرات عالمية في غير تخصصي، بغية الحصول على فكرٍ بيني قد يخدم التخصص الأصيل، ومن تلك الفوائد أيضاً: معايشة أجواء المؤتمرات، والإفادة من غايات التخصصات العلمية الأخرى، وأهدافها المستقبلية التي تركّز على تعزيز الواقع، والتماهي مع التغيّرات الجديدة، ودعم التنمية المستدامة، إضافة إلى لقاء بعض الشخصيات العلمية المتميزة من جنسيات مختلفة، والتعرف عليها عن كثب. غير أن شعوري كان أكثر فرحاً حينما يمّمتُ وجهي شطر بلدي الحبيب المملكة العربية السعودية، وفتحتُ هاتفي، فوجدتُ وقائع (مؤتمر الاستثمار الثقافي) الذي نظّمته وزارة الثقافة، في مركز الملك فهد الثقافي بمدينة الرياض، فأخذتُ أتابعُ أعمال المؤتمر وجلساته من خلال البث المباشر على منصة (إكس)، ولا أدري ما الذي جعلني أشعر حينها بشيء من الغبطة والافتخار؟! ذلك أن المؤتمر كان مختلفاً تماماً عن طبيعة المؤتمرات المعروفة، كما أن المؤتمرين كانوا على قدرٍ عالٍ من التخصص في المجال الثقافي، وناقشتْ أوراقُهم موضوعاتٍ مغايرةً، ومحتوى ثقافيّاً جديدًا، يشخّص الحالة الثقافية، وينبئ عما وصلت إليه الثقافة لدينا من تطور مذهل، جعلها ذات طابع معرفي، ومردود اقتصادي. وأحسب أن هذا المؤتمر السعودي فريد من نوعه؛ ذلك أنه آخى بين الثقافة والاقتصاد، وألّف بينهما، وانطلق منهما، وهو ما لم نعهده عادة في المؤتمرات العلمية؛ لذلك كان المؤتمر مختلفاً في طابعه، حيث حضره أكثر من مئة وخمسين متحدثًا، وألفٍ وخمسمئة مشاركٍ من كبار صناّع القرار، وقادة الثقافة والاستثمار على مستوى المملكة والعالم، وقد استطلعت أعمال هذا المؤتمر آفاق الثقافة المستقبلية وما يمكن أن تقدّمه للاقتصاد، ويقدّمه لها. وحينما طالعتُ الأرقام التي خرج بها هذا المؤتمر أدركتُ أهمية مثل هذه المؤتمرات العالمية النوعية، وأيقنتُ أن المؤتمرات المتميزة ليس شرطاً أن تكون في السياق العلمي التطبيقي، أو التكنولوجي فحسب، بل إن الثقافة بوصفها منتوجاً معرفيّاً إنسانيًّا، هي ميدان خصب للاستثمار العلمي، والاقتصادي، كما هو الحال في هذا المؤتمر الدولي السعودي الذي شهد توقيع أكثر من (89 اتفاقية) بأرقام عالية، ومبالغ ضخمة؛ وذلك بهدف تعزيز الاقتصاد الثقافي والإبداعي في المملكة العربية السعودية. كما شهد المؤتمر توقيع مذكرات تفاهم بين وزارة الاستثمار، والصندوق الثقافي؛ لجذب الشركات العالمية، وكذلك توقيع مذكرات تفاهم بين بعض المعاهد؛ لتطوير التعليم والتدريب الحرفي، إضافةً إلى تطوير مَعلٍم ثقافي بارز في الرياض، والتعاون مع الهيئة الملكية لمحافظة العُلا؛ لتعزيز التنمية الثقافية والحضارية. ومن فوائد هذا المؤتمر دخول بعض المجموعات الاستثمارية للسوق الثقافية، كمجموعة (أوري الصينية) التي أعلنت عن افتتاح مقرها الإقليمي باستثمار يتجاوز (ملياري ريال)، في مجال الأفلام، والتعليم، والأزياء، والسياحة، والفعاليات الثقافية. هذه المبادرات، والاتفاقيات، والاستثمارات التي خرج بها هذا المؤتمر المتميز تكشف عن قوة الثقافة في دفع عجلة التنمية، وتعزيز أثرها في بناء اقتصادٍ إبداعي مستدام، يخدم رؤية المملكة 2030، ويساعد في تنويع الاقتصاد الوطني، وترسيخ الهوية الثقافية، ويؤكد على مكانة المملكة العربية السعودية عالمياً، ويثبت أن الثقافةَ ميدانٌ جديد للتنافس العلمي، والمعرفي، والاقتصادي.