يشهد مفهوم السيادة تطورًا تاريخيًا مهمًا؛ من السيادة التقليدية القائمة على سيطرة الدول على حدودها الجغرافية في البر والبحر والجو، إلى ظهور مفهوم السيادة الرقمية، الذي يُعبّر عن قدرة الدول على ممارسة حقها داخل حدودها الرقمية. لقد أصبحت السيادة الرقمية سمة العصر الحديث، وتتمثل في عدة أبعاد رئيسية، من أبرزها البعد التقني، الذي يشمل السيطرة على البنية التحتية للإنترنت من خوادم وكابلات اتصالات وأنظمة تشغيل وسُحُب وطنية، والبعد القانوني والتشريعي، الذي يتمثل في قدرة الدولة على سَنّ القوانين التي تحمي خصوصية بيانات مواطنيها والمقيمين فيها وزائريها، وتنظّم كذلك عمل المنصات التقنية العالمية العابرة للحدود وتحدّد الحقوق والواجبات في الفضاء الرقمي، كما يظهر البعد الاقتصادي في التحكم بالبيانات بوصفها أصلًا استراتيجيًا يدعم الاقتصاد الرقمي المحلي، وفرض الضرائب على الشركات الرقمية العالمية التي تعمل ضمن الحدود الرقمية للدولة، أما البعد الأمني والدفاعي فيتمثل في حماية الفضاء الإلكتروني من الهجمات السيبرانية والجريمة المنظمة، وإنشاء قوات سيبرانية وطنية قادرة على الدفاع عن البنى التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء والأنظمة الصحية والمصرفية وغيرها. تواجه الدول تحديات جسيمة في سعيها لتحقيق سيادتها الرقمية، من أبرزها هيمنة الشركات التقنية العابرة للقارات، إذ تقوم بعض الشركات الأجنبية بجمع كميات هائلة من بيانات المستخدمين دون موافقتهم الواعية، مما يهدد الخصوصية والأمن الوطني، يُضاف إلى ذلك أن معظم دول العالم تعتمد على تقنيات وأنظمة طورتها دول أخرى، مما يخلق تبعية تقنية تهدد الاستقلال الرقمي، كما أن طبيعة الإنترنت اللامركزية تجعل من الصعب فرض القوانين الوطنية على فضاء عالمي لا يعترف بالحدود التقليدية، مما يخلق فجوة بين التشريعات الوطنية والواقع الرقمي. ولمواجهة هذه التحديات، يمكن للدول اتباع استراتيجيات متعددة لتعزيز سيادتها الرقمية، من أهمها: تطوير بنية تحتية رقمية وطنية من خلال الاستثمار في مراكز بيانات محلية وسُحُب وطنية وشبكات اتصالات مستقلة وآمنة، وضع إطار تشريعي راسخ يشمل قوانين صارمة لحماية البيانات والخصوصية وتنظيم المحتوى الرقمي واستراتيجيات وطنية شاملة للأمن السيبراني، والاستثمار في البحث والتطوير التقني لبناء كفاءات وطنية في المجالات الرقمية، وبناء شراكات دولية لتشكيل تحالفات رقمية مع دول ذات مصالح مشتركة، وتعزيز التوعية الرقمية لتمكين سكان الدولة من فهم حقوقهم الرقمية وكيفية حماية بياناتهم الشخصية، بالاضافة الى توطين البيانات عبر اشتراط تخزين ومعالجة البيانات الحساسة للسكان داخل حدود الدولة، لحمايتها من الوصول غير المصرح به. وتقدّم بعض الدول نماذج ملهمة في مجال السيادة الرقمية؛ منها النموذج الصيني الذي يعتمد سياسة "جدار الحماية العظيم" من خلال فصل الإنترنت الداخلي وتطوير بدائل محلية لكل الخدمات الرقمية مثل Baidu و WeChat، أما النموذج الأوروبي فيقوم على "السيادة التنظيمية" من خلال تشريعات صارمة مثل القانون العام لحماية البيانات (GDPR) الذي فرض معايير أوروبية على الشركات العالمية، والنموذج الروسي الذي يعتمد قوانين تفرض سيادة الدولة على الإنترنت المحلي، منها قانون "الإنترنت السيادي" الذي يهدف إلى إنشاء بنية تحتية رقمية مستقلة، أما النموذج السعودي فقد حقق تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال، حيث ركزت المملكة على بناء وتعزيز السيادة الرقمية ضمن إطار التحول الوطني الشامل، إدراكًا منها بأن البيانات أصول وطنية يجب أن تُنمى وتُحوكم وتُحفظ السيادة عليها ضمن الإطار القانوني الوطني، وجعلت منها بذلك أحد ركائز التحول الوطني ضمن رؤية السعودية 2030، حيث تسعى المملكة إلى امتلاك أدواتها الرقمية، والتحكم في بياناتها، وتعزيز أمنها السيبراني، وتقليل الاعتماد على الخارج في البنية التحتية التقنية. إن السيادة الرقمية تعني أن تظل البيانات الرقمية خاضعة لسلطة الدولة، وأن تُدار السياسات والتشريعات الوطنية الرقمية من خلالها لضمان الأمن والمصلحة الوطنية، فهي معركة الوجود الجديدة؛ والدولة التي لا تملك السيطرة على فضائها الإلكتروني كمنزلٍ بلا أسوار في العصر الرقمي.