حين يُقدِّم العالم الغربي نفسه بوصفه حارسًا للحرية وملاذًا للتنوير يُخيّل للمرء أنّ ثمّة فضاءً مفتوحًا على مصراعيه لكل صوت ولكل ثقافة ولكل رؤية. غير أنّ التجربة تكشف غير ذلك، إنّها حرية مشروطة بموازين الهيمنة والاقتصاد والسياسة. حيث ترفع شعار الانفتاح بينما تُخفي بين طياتها نزعة براغماتية صلبة تجعل من القيم الأخلاقية ترفًا هامشيا إذا ما تعارضت مع المصلحة أو الجدوى، فهي ليست دائمًا جسرًا يصل الثقافات ببعضها كما نعتقد، بل قد تكون جدارًا كُتب عليه: "اقترب لكن على طريقتي". أتذكر ذات مرة عندما كنتُ في رحلة جوية؛ حيث وجدتُ نفسي أجلس إلى جوار رجل غربي خمسيني ودود. بدأنا نتحدث حول أمور عامة إلى أن أخذنا الحديث إلى القيم والعائلة. سألني عن حياتي، فحدثته عن الروابط الأسرية وعن كيف أنّ العائلة لدينا تُمثّل شبكة من مسؤوليات متبادلة تتضمن الرعاية والتواصل اليومي مع الوالدين والإخوة. وكيف يُمثّل حضور الأهل في تفاصيل الحياة اليومية سندًا نفسيًا واجتماعيًا لا غنى عنه. ابتسم وقال: "جميل.. لكن أليس هذا النمط من الحياة يخلق نوعًا من القيد على الحرية الفردية، ثم أين هي المنفعة المتحصّلة ما دامت تُحمّلك ما لست مسؤولًا عنه؟". توقفتُ هنا قليلًا وأنا أُحدّث نفسي: "نحن لا نراها قيدًا، فلماذا يفترض هو ذلك؟ إننا نراها حياة، بل وحياةً فاعلة». أحسستُ أنني أقف على حافة بركان ثائر، فهل أتماهى مع براغماتيته التي لا ترى في الفكرة إلا ما يُثمر نفعية محضة، أم أظل وفيًّا لصوت داخلي يُذكّرني أن الحقيقة ليست مرتهنة بميزان الجدوى وحده؟ هنا تذكّرت مقولةً لتشومسكي: "الحرية متاحة ما دمتَ داخل الإطار، فإذا تجاوزتَ حدوده المصطنعة جرى تهميشك». إنّها شهادة من الداخل بأن العالم الحر ليس بالضرورة عالمًا حرًّا، بل عالمٌ يُعيد إنتاج ثقافة المركز على حساب الأطراف. قلتُ له: «إنّ الحرية عندنا ليست أن ينفصل المرء عن جذوره، بل أن يختار كيف له أن ينتمي لها باعتزاز". هذه المرة لن أقول إنّها نمطية العقل الشرقي، بل سأقول إنها نمطية العقل الغربي. بدت عليه ملامح عدم الاقتناع، مع طيف من المجاملة بدا في هزة رأس غير مكتملة ينتابها التلكّؤ ويفضحها الذهول.. أو هكذا شعرت على الأقل. كان قصدي أن أُبرز له كيف أنّ الثقافة العربية تنظر إلى الأسرة لا بوصفها شكلاً فحسب، بل بوصفها قيمة ومعنى وأخلاقيات. لكني في تلك اللحظة أيقنت أنّ المسافة بيننا تبدو بقدر ما بين محطتي سفرنا، وأنّها ليست لغوية ولا معرفية، بل هي مسافة أبعد.. لقد أدركتُ أنّ الفجوة بيننا ليست في غياب المعلومات، بل في اختلاف المنطلقات، وليست في تعريف الأسرة فحسب، بل في مفهوم الحرية ذاته. هم يرونها انفصالًا عن الآخرين لصالح الفرد، ونحن نراها اكتمالًا للفرد عبر الآخرين. فهي ليست فجوة بين نصٍّ وآخر، بل بين رؤيتين مغايرتين للوجود.. فالبراغماتية الغربية كما يبلورها جيمس وديوي تقوم على معيار النفع والنتيجة وما يُثمر أثرًا عمليًا. فهذه الفلسفة التي جاءت متمردة على الفلسفة التقليدية وصنعت عظمة الغرب التقنية هي ذاتها التي جعلته يُقصي ما لا يندرج في جدول الجدوى. فمثلاً إذا لم يكن الدين أداة إنتاج أو لم تكن القيم وسيلة للتسويق، فلا معنى لهما إلا في خانة التراث والترف. وهنا تتبدّى الفجوة: فما نعدّه جوهرًا يصبح عند الآخر زينة. إنّ العالم الذي يُفاخر بحريته يضع حول المعنى قفصًا خفيًّا؛ حيث يرى الفيلسوف ماركوز أنّ الحرية في المجتمعات الحديثة قد تحوّلت إلى تسطيح للاختيارات؛ إذ لا ينجو الفرد من قيد السوق والإعلام حتى وإن ظنّ نفسه حرًّا. وهذه الحرية المسطّحة لا تسمح للثقافات الأخرى بأن تعرض عمقها، بل تختزلها في صورة سلعوية. إنّها تُقوِّم معيار الحقيقة بما يُنجز في الواقع. هكذا تبدو الحرية في الخطاب الغربي المعاصر شعارًا كونيًا يَعِد بالانفتاح والتسامح غير أنّ حقيقتها تظل محكومة بميزان خاصٍ معيارُه المصلحة والانتقائية التي تسمح لك بالحديث في حدود قاموس مَعانٍ جاهز لا ينبغي تجاوزه. والحق أنّنا لسنا مدعوين إلى رفض الآخر ولا إلى الانصهار فيه، ذاك أنّ فجوات الثقافة في العالم الحر ليست مجرّد سوء فهم، بل هي مؤشّر لتباين الرؤى حول ما يُعطي الحياة قيمتها. وإذا كانت الفجوات واقعًا لا مناص منه فإن الرد لا يكمن في التقوقع ولا في الذوبان، بل في عقل نقدي محاور غير مُكتفٍ بالتقليد أو الانغلاق. أو كما يقول ريكور: "الهُوية ليست ثباتًا صلدًا، بل حوار مع الآخر دون أن نفقد ذواتنا". حين هبطت الطائرة أدركت أنّ الحوار الذي دار بيننا لم يكن مجرد تبادل آراء، بل كان رحلةً عكسيةَ المسافة بين ثقافتين، فحريّة بلا قيم ليست إلا عزلة وأنانية في عالم يزدحم بالصوت غير أنّه يفتقر إلى الصدى الإنساني والأخلاقي.