التجار النجديون رسل الدولة السعودية إلى العالم كتبته: مرام ضيف الله الحربي أعدته للنشر: نوال الجبر حين نتأمل مسيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود -رحمه الله-، ندرك أننا أمام قائد استثنائي جمع بين قوة الإدارة السياسية ودهاء الدبلوماسية وبعد النظر، لم يكن مشروعه لبناء المملكة العربية السعودية مجرد توسع عسكري أو توحيد قبائل، بل كان رؤية حضارية شاملة، استثمر فيها جميع عناصر المجتمع، وجعل من التجّار النجديين شركاء في حمل رسالة الدولة الوليدة الى العالم الخارجي، ويجسدون صورة الدولة الفتية، وينسجون بخيوط ولائهم وشبكاتهم خريطةً جديدة للعلاقات الدولية، فحققوا معًا نجاحًا فريًدا في تاريخ العلاقات الدولية. يدرك الملك عبدالعزيز أن بناء الدولة لا يكتمل الا بالانفتاح على العالم الخارجي، وأن الانفتاح يحتاج الى أدوات مرنه ووجوه موثوقة تستطيع اختراق المجتمعات والدول، فالتّاجر النجدي بما يملكه من خبرة في الأسواق وصلات مع العواصم، كان خير رسول يعكس صورة الدولة الناشئة، وهنا تجلت عبقريته؛ اذ حوّل التجارة الى منصة دبلوماسية، والتجّار الى أذرع سياسية تمهد للاعتراف والشرعية الدولية، لقد كان هذا الاختيار علامة على بُعد نظره، فقد سبق عصره، وأستثمر القوة الناعمة قبل أن تُعرف بهذا الاسم في عالم السياسة. مرحلة البدايات حيث بدأت مرحلة التأسيس والبناء الداخلي مع المحافظة على العلاقات الجيدة مع القوى المحيطة بالدولة الوليدة سنة(1913-1925م) أما المرحلة الثانية: بدأت منذ ضم الحجاز للحكم السعودي سنة (1926-1930م)، انتظم فيها التمثيل الدبلوماسي والقنصلي بين الحكومة السعودية ودول العالم الخارجي، وفيها حصل الملك عبدالعزيز على اعتراف منهم بحُكمه، ثم تطورت بعد ذلك العلاقات الدولية بشكل أكبر عند انشاء مديرية الخارجية سنة 1927م، وفي هذه الفترة اعتمد الملك عبدالعزيز على المعتمدين النجديين من ناحية اجراء المفاوضات التجارية والسياسية، وتوضيح الحقائق، فأصبحوا حلقة الوصل بين الملك عبدالعزيز وبعض الدول، على الرغم من صعوبة العمل السياسي في ذلك الوقت، المرحلة الثالثة سنة (1931-1953م) اتسمت بالتطور داخليًا وخارجيًا، فإنشاء وزارة الخارجية التي كان لها دور في تخفيف العبء الكامل على المعتمدين في الخارج، ومن بينهم التجّار النجديون، فأصبحت الوزارة هي المحرك الأساسي لكل التعاملات الخارجية، وحلقة الوصل الرئيسية بين المملكة العربية السعودية ودول العالم، وهي المسؤولة عن حسم الأمور والمفاوضات مع الدول. أما في الخارج فقد شهدت عدد من الدول الصديقة للملكة العربية السعودية تطورًا من ناحية التمثيل الخارجي، الذي بدأ بشكل متدرج مدروس من قنصلية الى مفوضية ثم الى سفارة، ولم تختلف المصطلحات فحسب، بل تعددت الصلاحيات، وزادت الأدوار السياسية لها. نماذج مضيئة من التجار النجديين سطع ذكر هؤلاء التجّار في التاريخ، لم يقتصر عطاؤهم على التجارة والاقتصاد، بل ارتقوا ليكونوا ركائز في بناء الدبلوماسية السعودية، ومنهم: إبراهيم بن معمر: إبراهيم بن محمد بن معمر، تميّز بدور يجمع بين الاعلام والسياسة، فقد تصدى للحملات الصحفية التي حاولت تشويه صورة الدولة السعودية في القاهرة، وعمل على بناء شبكة واسعة من العلاقات مع أبرز الصحف وكبار الكُتّاب المصريين، كما ساهم في تقريب وجهات النظر بين القيادتين السعودية والمصرية، وكان حضوره علامة على براعة التاجر النجدي في خدمة الدبلوماسية الوطنية. ويعتبر أول وزير سعودي مفوَّض في بغداد، ومن المواقف الجديرة بالاهتمام في سيرة ابن معمر السياسية، حادثة تنكيس أعلام الدول الصديقة في العراق عندما تُوفي الملك فيصل الأول سنة 1933م، فقد نُكست جميع الدول أعلامها حدادًا عليه، باستثناء علم المملكة العربية السعودية، بسبب رفض ابن معمر تنكيس العلم السعودي احترامًا لراية التوحيد، وهو تقليد تبنته المملكة العربية السعودية بعد ذلك التاريخ احترامًا للفظ الجلالة التي يحملها العلم. وقد مرت حياته بمراحل عدة، توضح الأدوار الدبلوماسية المهمة التي قام بها في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود: المرحلة الأولى: سنة (1913-1923م): انضم ابن معمر إلى فريق المستشارين السياسيين الأوائل للملك عبدالعزيز آل سعود، مثل: الأمير أحمد وقد أوردت بعض الوثائق أنه كان سكرتيرًا بالديوان الملكي، ومكلَّفًا بملف الاستخبارات السياسية الخارجية. المرحلة الثانية: سنة (1924-1926م): تكليفه مبعوثًا سياسيًّا من قِبَل الملك عبدالعزيز آل سعود، فقام برحلات عدة إلى أوروبا وبعض البلاد العربية، واستقر في نهاية هذه الفترة في مصر. المرحلة الثالثة: سنة (1933-1936م): عين قنصلًا عامًّا ووزيرًا مفوضًا في العراق. رشيد بن ليلى: رشيد بن ناصر بن ليلى، أدرك الملك عبدالعزيز بفراسته السياسية أن بن ليلى قد تمرّس طويلًا في ميادين الخارج، واكتسب خبرة رفيعة في دهاليز السياسة، أنفع للدولة أن يكون جسرًا بين المملكة والعالم من أن ينحصر دوره في الداخل، فوضعه حيث تعظم فائدته، ليبرهن بذلك على بصيرته ومرونته القيادية في توظيف الطاقات واستثمار الرجال في المواقع التي ترتقي بمصالح الدولة وتخدم رسالتها. فأسهم في تعزيز العلاقات السعودية-السورية منذ عام 1933م، وساعد في دعم الرحلة الأولى للحج من سوريا عبر السيارة سنة 1935م، وذلك باكتشاف طريق بري يربط بين الشام والحجاز وفتح هذا الطريق يترتب عليه منافع للبلدين، ويسهل للحجاج طريقهم للحج، كما يترتب عليه تبادل تجاري بين البلدين. عبدالعزيز الصقير: عبدالعزيز بن عبدالله بن صقير، كان فريد وقته في حفظ أخبار الأُسر وتاريخها، وأحوال رجال القصيم ومجريات البلاد، ويقصده كثير من الناس لهذا الغرض، استقر في العراق وأسهم في توسيع شبكة العلاقات التجارية، وبنى روابط وثيقة مع زعماء القبائل والشخصيات المؤثرة، في مجلسه المفتوح في الكرخ الذي يعد أشهر مجلس لرجل نجدي في العراق ذلك الزمن، وزاره شيوخ القبائل والأعيان والتجار، إن هذا التواصل الاجتماعي مع الشخصيات المهمة جعله على معرفة ودراية بتفاصيل المجتمع العراقي وتركيباته، الأمر الذي جعل إبراهيم بن معمر يعتمد عليه كليًّا فيما يخص القبائل ومشاكل الحدود بين البلدين ومشاكل الإخوان، ويستعين به بمعرفة الناس، وقد أعجب الملك عبدالعزيز بالمعلومات التي تصله من سفارته في العراق، فسأل ابن معمر عن مصدرها، فأخبره أنه ابن صقير فتقرر تعيينه ملحقًا في السفارة السعودية في العراق سنة 1936م، وبعد انضمامه للسفارة السعودية أصبح ابن صقير يمارس عمله الذي كان تطوعيًّا بشكل رسمي. عبداللطيف المنديل عبداللطيف بن إبراهيم بن منديل، تجاوز دوره حدود التجار ليصبح عنصرًا فعالًا في السياسة، بعد أن عاد الملك عبدالعزيز إلى الرياض بعد أن ضم الأحساء إلى حُكمه سنة 1913م، قامت الدولة العثمانية بإرسال عبداللطيف المنديل مندوبًا عنها إلى الرياض للتوسط بينها وبين الملك عبدالعزيز بشأن الأحساء والمشاكل التي حصلت بين الطرفين؛ فقبل الملك عبدالعزيز ذلك. ونتج عن هذه الوساطة مؤتمر الصبيحية، حيث شارك في المفاوضات المتعلقة بترسيم الحدود مع العثمانيين، وكان دور عبد اللطيف في هذه الاتفاقية دور محوري في التوصل إلى حل ودِّي بين الدولة العثمانية والملك عبدالعزيز آل سعود، وتعامل بحكمة مع البريطانيين منذ احتلالهم للبصرة سنة 1914م، حتى وصفته الوثائق البريطانية "الصديق المخلص ومن خيرة الرجال في العراق". وبفضل نفوذه وعلاقاته كان جسرًا مهمًا دعم سياسة الملك عبدالعزيز، وساهم في تعزيز موقع الدولة على الساحة الدولية، وبرز دوره السياسي خلال فترة سيطرة الدولة العثمانية ثم بريطانيا على العراق، ثم بدأ يتوارى عن الأحداث السياسية بعد ذلك. فوزان السابق: فوزان بن سابق بن فوزان آل عثمان، أحد أبرز التجار النجديين الذين تحوّلوا الى رجال دولة بفضل ثقة الملك عبدالعزيز، مارس دورًا يتجاوز التجارة الى الدفاع عن مصالح الرعايا السعوديين لدى السلطات الفرنسية، أنشأ الملك عبدالعزيز أول وكالة له في دمشق، وعُين فوزان السابق معتمدًا بها سنة 1921م، وباشر السابق متابعة مصالح الرعايا التابعين للملك عبدالعزيز، ومراجعة الحكومتين الفرنسية والبريطانية في بلاد الشام، فقد شكَّل عدم حمل الرعايا السعوديين لبطاقات تعريف بهم وبجنسياتهم مشكلة لهم، وأدت إلى تعطيل في مصالحهم التجارية، وسعى إلى إيجاد الحلول للرعايا وحل مشاكلهم لدى الدوائر الحكومية السورية، حصل السابق على حق إصدار جوازات سفر وتذاكر تابعية للرعايا السعوديين سنة 1923م، وأصدرت الوكالة مائة وخمسين جواز سفر لجهات متنوعة حسب طلب المسافرين، وأصبح استخراج جواز السفر يستغرق بضع ساعات بعد أن كان يستغرق أيامًا، كما تم إصدار تذاكر تابعية رسمية، لبيان هوية حاملها، التي صادقت الحكومتان الفرنسية والبريطانية عليها واعتبرتها أيضًا (تذكرة سفر) في حال عدم وجود جواز سفر لأحد الرعايا السعوديين، ويدل ذلك على ثقة الحكومتين بهذه الوثيقة الموقَّعة من معتمد سلطان نجد. كيف تحولت المجالس التجارية إلى منصات سياسية ؟ كان السابق صلة مباشرة بين الملك عبدالعزيز والدوائر السياسية في دمشق، ونجح في توطيد صورة الدولة الناشئة في منطقة تعج بالصراعات، فيقول حافظ وهبة عن السابق: "كان بيته محفلًا لذوي الرأي، وأهل العلم والدين، وأصحاب الجرائد، وحمَلة الأقلام وذوي النفوذ في البلاد والأحزاب، وكنا ممن أحبوا الإمام العادل، بسبب فوزان السابق، وتبشيره بما انطوى عليه الإمام العادل في الرحمة والحنان للمسلمين والعرب"( ). وعندما انتقل الى مصر سنة 1925م، واصل دوره الفعّال في خدمة المملكة، فعمل على تهيئة الأجواء السياسية والإعلامية لتقوية الروابط السعودية - المصرية، بفضل مكانته وثقة الملك عبدالعزيز به، وأصبح أحد الوجوه البارزة التي مثلت الدولة في الخارج، وترك أثرًا واضحًا في مسيرة الدبلوماسية السعودية المبكرة. دور فوزان السابق لم يقتصر على المفاوضات مع الحكومة المصرية، التي لم تعترف به كمعتمد للملك عبدالعزيز آل سعود، بل تفاوض مع العديد من الدول التي كان لها ثقلها السياسي والتجاري ومنها: المفاوضات مع ممثل الحكومة الألمانية في القاهرة، بشأن توقيع اتفاقية الصداقة والتجارة مع ألمانيا، وفوَّضه الملك عبدالعزيز ومعه حافظ وهبة تفويضًا تامًّا ، وقد وُقِّعَت الاتفاقية في القاهرة سنة 1929م، وتمَّ تبادل الممثلين الدبلوماسيين والقناصل بين البلدين، وتوثيق العلاقة في مجالات عدة أخرى، كما كان له لقاء مع القنصل البولندي في مصر الذي رغب في إيصال رغبة حكومته في الاعتراف بحكم الملك عبدالعزيز، ثم قام السابق بكتابة رسالة إلى الملك عبدالعزيز سنة 1930م يوضِّح فيها طلب الحكومة البولندية؛ فما كان من الملك عبدالعزيز آل سعود إلا الموافقة؛ وقد نتج عنها اعتراف حكومة بولندا بالحكم السعودي، وقد زار وفد بولندي جدة، والتقى بالملك عبدالعزيز، وتُعد هذه الزيارة بداية العلاقات السعودية البولندية، وبذلك دليل على مدى ثقة الملك عبدالعزيز به واعتماده عليه. إرث ممتد من عبقرية المؤسس إلى حضور السعودية العالمي اعترفت مصر بالمملكة العربية السعودية سنة1936م، كدولة حرة مستقلة، حيث تبع هذا الاعتراف تحسنٌ في العلاقات بين البلدين، ووقِّعت معاهدة الصداقة بين البلدين، وبدأت المراسلات بين البلدين من أجل إنشاء مفوضية للمملكة العربية السعودية في القاهرة، وتعيين فوزان السابق قائمًا بالأعمال، وقنصلًا عامًّا فيها، ثم أصدر جلالته قرارًا بترقيته من قائم بالأعمال بمصر إلى وزير مفوض ومندوب فوق العادة سنة1945م، وبذلك أصبح فوزان السابق أول وزير مفوض للسعودية في مصر. ورغم ما قدمه هؤلاء من إنجازات دبلوماسية مشهودة وغيرهم، فإن ما ذُكر هنا لا يُعد أن يكون الا نماذج مضيئة من سجل طويل حافل بالعطاء، فالتاريخ مازال يختزن لتجّار نجد الدبلوماسيين صفحات واسعة من المواقف والإنجازات التي يفوق ذكرها هذا المقال، ولم يُستعرض هنا سوى جزء يسير من عطائهم الكبير في خدمة وطنهم وقد أسهموا في تحويل التجارة الى أداة دبلوماسية متينة، جعلت من المملكة كيانًا حاضرًا في الوعي الإقليمي والدولي منذ بداياتها. لقد أثبت التاريخ أن التجّار النجديين لم يكونوا مجرد شركاء في الحركة الاقتصادية، بل كانوا روادًا أوائل للدبلوماسية السعودية، حين حملوا صوت الدولة إلى الخارج وأسهموا في تثبيت مكانتها بين الأمم، ومن تلك البدايات المتواضعة، التي صاغها الملك المؤسس بحكمته وبصيرته، انطلقت مسيرة الدبلوماسية السعودية لتتطور عبر العقود، حتى غدت اليوم منظومة متكاملة تشمل الوزارات الرسمية، والبعثات الدبلوماسية، ومجالس الأعمال التابعة للغرف السعودية، لتجسد امتدادًا طبيعيًا لذلك الجهد الأول الذي قام به رجال التجارة في خدمة وطنهم. الملك عبدالعزيز النواة الحقيقية لنشأة الدبلوماسية السعودية ومن هنا يمكن القول إن عهد الملك عبدالعزيز كان هو النواة الحقيقية لنشأة الدبلوماسية السعودية، التي شُيّدت على الحكمة، وتوشّحت بثبات المبدأ وسمو الغاية، حتى أصبحت نهجًا خالدًا وميراثًا حضاريًا، وما نشهده اليوم من حضور متوازن ونافذ التأثير للملكة ما هو الا امتداد لذلك الصرح المُؤسس، توارثته الأجيال قيادةً بعد قيادة، واليوم يتجدد ذلك الإرث العريق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وتنبض روحه برؤية ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظهم الله-، لتتجلى المملكة قوةً دبلوماسية، وقطبًا دوليًا مؤثرًا، تمضي بثبات وثقة لترسم ملامح الحاضر وتشارك بجدارة في صياغة مستقبل العالم.